العرب في عالم مضطرب: بلدان تعاني الغرق وأخرى القلق والأرق

يشهد العالم حاليا مجموعة من الصراعات العسكرية الدموية المرشحة أعدادها للتزايد أكثر في المستقبل القريب بفعل تنامي حدة عدد من التوترات السياسية القائمة بين دول كثيرة عبر أرجاء المعمورة إما نتيجة وجود خلافات حدودية وأطماع توسعية لبعضها أو تباين في طبيعة أنظمتها، واحتدام التنافس فيما بينها في مختلف المجالات الاقتصادية والمالية التجارية وغيرها، ناهيك عما تعيشه بلدان أخرى من نزاعات داخلية وحروب أهلية ناجمة عن أسباب متعددة تتراوح بين أسباب عرقية، وأخرى دينية ومذهبية، فيما ثالثة يكمن محركها في تسلط أنظمة عسكرية أو حزبية دكتاتورية.

ولاشك في أن هذا التصاعد اللافت لعدد المناطق الملتهبة فعلا، وتلك القابلة للاشتعال عند أول شرارة تصيبها يؤشر على أن النظام العالمي الراهن، الذي تأسس في أعقاب الحرب العالمية الثانية ممثلا من الناحية السياسية في منظمة الأمم المتحدة وعدد من مؤسساتها المتخصصة، ومن الناحية الاقتصادية والمالية في كل من البنك وصندوق النقد الدوليين، قد بدأ في التداعي الذي يتضح جليا في إخفاق كامل منظومته في تسوية القضايا السياسية المختلفة العالقة منذ زمن بعيد، وفشلها في إرساء أسس السلام، وتحقيق التنمية المنشودين في مواثيق إنشائها.

ويجمع معظم الباحثين، في القضايا المرتبطة بالقانون والعلاقات الدولية على أن هذه الوضعية المزرية للنظام العالمي الراهن تعزى إلى أسباب متعددة لعل أبرزها ما يلي:

*أسباب ذاتية تكمن في صلب تركيبة واختصاصات المؤسسات الدولية المعنية بالسلام والاقتصاد والتنمية، إذ كلها تتحدث في ديباجة مواثيقها وبعض الفصول الأساسية فيها على مبدإ المساواة بين جميع الدول، ولكنها تعطي في ذات الوقت الأفضلية في نقض القرارات لدول على أخرى، هي في حالة منظمة الأمم المتحدة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وفي المؤسسات المالية الدول صاحبة المساهمة الأكبر في رأس مال تلك المؤسسات ؛ الأمر الذي عرقل العديد من عمليات إنصاف الشعوب المستضعفة، ومحاولات إقامة الأمن والسلام رغم أهميتهما في إنجاز المشاريع الإنمائية.

*عودة المنافسة المحمومة على الريادة العالمية الناجمة عن تصادم أهداف القوى الكبرى فيما بينها، ممثلة في :

1/ سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى تأمين سيادة القيم الغربية التي تسعى لفرضها تارة بالترهيب وطورا بالترغيب، وخاصة إلى تأبيد الأحادية القطبية التي وصلت إليها بعد انتصارها في الحرب الباردة، وتمكنها من إرغام الاتحاد السوفياتي الذي كان ينافسها على التفكك، إضافة إلى تحلل منظومته الدفاعية التي جسدها حلف وارسو إبان الحرب الباردة.

2/ إصرار كل من روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفياتي على استعادة نفوذها السابق بعد أن استرجعت الكثير من مكانتها وهيبتها على الساحة الدولية بفضل قوتها العسكرية وثرواتها المعدنية، والصين الشعبية الباحثة عن توسيع دائرة نفوذها وتأثيرها العالميين بما يعكس ضخامة قوتها الاقتصادية والاستثمارية وتطورها التكنولوجي.

ورغم أن كل واحدة من هذه القوى الكبرى مصممة أكثر من أي وقت مضى على بلوغ أهدافها، ورغم تزايد احتمالات تصادم مباشر بين مصالحها، إلا أنها حريصة لحد الآن على تفادي المواجهة العسكرية المباشرة فيما بينها لما تحمله من مخاطر جسيمة ليس فقط على بلدانها، وإنما على العالم بأسره. ولذلك تسارع عند أول احتكاك مباشر مهما كان محدودا إلى تطويقه قبل انفلاته، معوضة ذلك بصراعات غير مباشرة عبر وسطاء هنا وهناك، وفي ميادين بعيدة عن أراضيها بشكل سبب توترا مستداما في العديد من مناطق العالم الأخرى.

ولاشك في أن صراع الكبار هذا إذا ما استمر واستفحل بهذه الطريقة وبالوتيرة الحالية سيقود إلى الانهيار التام للنظام العالمي الراهن، وفي ضوء ما يبدو من استعصاء في ولادة نظام جديد ما يزال في طور مخاض صعب لعدم التوافق بين هؤلاء الكبار حول طبيعته، فإن هذا النوع من الانهيار حاصل حتما، مما سيساهم في مضاعفة معاناة العديد من الشعوب، وخاصة تلك المنتمية للكيانات الدولتية Etatique الهشة، التي يرزح معظمها الآن تحت تأثيرات سلبية كبيرة تهدد بشكل مباشر كلا من أمنه الاجتماعي وقوت غذائه اليومي ومحيطه البيئي أيضا، والذي يتعرض للتآكل التدريجي بسبب التغيرات المناخية الشديدة الوطأة.

وغني عن الذكر أن هذه التأثيرات قد وصلت في بعض الحالات إلى حد تحول عدد من هذه الكيانات إلى دول فاشلة أصبحت أراضيها أو جزءا كبيرا منها مجرد ساحات صراع للقوى الكبرى في العالم، والقوى التي تقاسمها ذات الإقليم الجغرافي  الطامعة في توسيع نفوذها، كما أصبح عدد من أبنائها وقودا لتلك الصراعات، ناهيك عن أنها جميعا باتت مصدرا لموجات متوالية من الهجرة غير الشرعية التي تؤرق كافة الأنظمة الغربية في أوروبا وأمريكا الشمالية.

ولعل أبرز النماذج في هذا السياق توجد في العالم العربي وفي القارة الإفريقية، إذ لا يمكن الادعاء بعكس ذلك في حالة كل من اليمن وسوريا وليبيا والسودان عربيا، وبعض دول منطقة الساحل والصحراء إفريقيا، وهي حالات يبدو من واقعها اليومي المعاش أن مواطنيها أنظمة ومعارضة لا قدرة ولا رغبة، بل ولا إرادة لهم في البحث عن أرضية مشتركة للتوافق بغية الخروج من أوضاعهم المزرية هذه.

إن هذه الدول بقدر ما هي مغرية للقوى الكبرى ولجيرانها من القوى الإقليمية ذات النزعة التوسعية لنقل صراعاتها إليها، فهي تمثل مصدر قلق وأرق أمني وإنساني واقتصادي لبقية دول الجوار، وخاصة لأشقائها، الذين يدركون خطورة استمرار هشاشة وتعثر البلدان المحيطة بهم، خاصة في ظل وضع عالمي لم يعد يعير ولو الحد الأدنى من الاحترام لقواعد القانون الدولي ومبادئ الأخلاق الإنسانية.

وبالمراعاة إلى استشراء ظاهرة التوحش التي باتت سمة مميزة للعلاقات بين الكثير من الدول، وتزامنها مع تفشي ظاهرة تهافت معظم الدول العربية والإفريقية على البحث عن حلول فردية لتأمين كياناتها والحفاظ على أمن مجتمعاتها، واستجدائها ذلك في أحيان كثيرة من القوى الكبرى في شكل تحالفات وتفويت صفقات، فمن المتوقع تفاقم هذه الأوضاع البئيسة أكثر فأكثر ما لم تسارع هذه الدول إلى تسوية خلافاتها، والعمل على تكتل طاقاتها وتفعيل اتفاقياتها الدفاعية والأمنية الثنائية والجماعية. فالأوضاع الراهنة عالميا تتطلب التركيز على نقاط الالتقاء لا على عوامل الفرقة والجفاء.

لقد أكل الثور الأسود عندما أكل الثور الأبيض، ولكنه لم يدرك ذلك إلا بعد فوات الأوان.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة