عناصر القوة أساسية في توازن العلاقات الدولية

تماما كما فشلت مؤسسة الدولة في تحقيق العدالة بين الأفراد والجماعات التي تتكون منها المجتمعات التي تديرها، فشل المجتمع الدولي في تأمين الحد الأدنى من العدالة الإنسانية بين الأمم والشعوب رغم أنه أسس لهذا الغرض العديد من المنظمات الدولية والإقليمية المتعددة الاختصاصات سياسية واقتصادية ومالية وتجارية وغيرها ممن تسعى إلى تغطية معظم الأنشطة الإنسانية الجماعية، أملا منه في تفادي الانزلاق إلى حروب دموية أخرى سبق وأن كلفت العالم من قبل خسائر بشرية ومادية كبيرة.

وإذا كان بالإمكان تبرير انعدام المساواة بين الدول والشعوب على الصعيد الاقتصادي والتجاري والمالي انطلاقا من عدم تساويها في عدد السكان وفي مستوى تعليمهم وتكوينهم، وتباين مدى تقدمها الصناعي والتكنولوجي، وقيمة الثروات المادية واللامادية التي تتوفر عليها، فضلا عما تتميز به عن بعضها البعض بسبب اختلاف مواقعها ومساحاتها الجغرافية وتجاربها التاريخية والحضارية، فإن من الصعب استساغة انعدام المساواة السياسية،

ويعود ذلك إلى أن جميع المنظمات الدولية وكذا الإقليمية والتكتلات الجهوية على اختلاف أنواعها وتعدد نشاطاتها تؤكد في ديباجات مواثيقها، وفي العديد من فصول هذه المواثيق على أهمية وضرورة التعامل داخلها، وفيما بين أعضائها على أساس مبدإ المساواة في السيادة، ومبدإ عدم جواز الاعتداء على الغير، إضافة إلى مبدإ تسوية المنازعات بالطرق السلمية، وتغليب روح التعاون والتضامن والشراكة.

غير أن ما يحصل على أرض الواقع مختلف تماما عن هذه الأسس النظرية، إذ باتت السمة الغالبة التي تميز معظم العلاقات بين الدول تتمثل بتنامي ظاهرة عدم المساواة وإمعان البعض في تكريسها من خلال استباحة القوي للضعيف متى ما وجد إلى ذلك سبيلا ؛ الأمر الذي أدى إلى استشراء انعدام الثقة، وما ينجم عنها من شيوع توجه عام لدى كافة الدول بالتدقيق في كل المعطيات بحذر وتوجس وتريث قبل الإقدام على إقامة أي علاقات تعاقدية فيما بينها أو تقوية علاقات مقامة من قبل.

ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد، إذ دلت التجارب عبر العصور على ضرورة وأهمية بل وحاجة الدول إلى التزود بكل ما يمكن من عناصر القوة حتى في حالات سيادة السلم والأمن والاستقرار، وذلك تحسبا لأي طارئ أو تطور سلبي ربما يحصل على حين غرة، انطلاقا من المبدإ الروماني القديم “القوة تحمي الحق”، وهو المبدأ الذي استند عليه روبرت جيمس مارتن وايت للتأكيد على أن ما يميز التاريخ البشري هو سيطرة فكرة القوة على فكرة الحق، التي تعتبر الأساس لنظريته المتمحورة حول أن مبدأ توازن القوة هو الذي يسير العلاقات الدولية وليس مبادئ القانون الدولي.

وبهذا المنطق، فإن القوة تغدو المحرك الأساسي لديناميكية العلاقات الدولية المطلوب من أي دولة توفير كافة عناصرها إن أمكن باعتبارها ضمانة ناجعة لأي دولة للحفاظ على كيانها وتأمين مصالحها، ووسيلة فعالة تساعدها في أن تجد لنفسها مكانة محترمة ومقدرة على مسرح التنافس الدولي، فيما يغدو الارتكاز على حسن النية وحده في إدارة العلاقات الدولية مجرد دليل على السذاجة ليس إلا، كما يحلو لعدد من فقهاء القانون الدولي وصف ما حصل للزعيم النازي أدولف هتلر في اتفاقه مع الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية.

والمقصود بالقوة في هذا الإطار ليست القوة العسكرية وحدها، وإنما مختلف مكوناتها الاقتصادية والتجارية والمالية والبشرية والعلمية والتكنولوجية، والتماسك المجتمعي الداخلي، إضافة إلى سياسة خارجية واضحة المعالم دقيقة وواقعية الأهداف تعبر عنها دبلوماسية حاضرة البديهة، مستوعبة للتطورات على الساحة الدولية، مدركة لأبعادها ومراميها، قادرة على أن تجنب بلدانها أضرار محدقة، وأن تضيف لقوتها المعنوية ميزة على خصومها، وليست دبلوماسية الفرقعات الإعلامية Le Buzz médiatique، التي سرعان ما تذهب كالزبد جفاء بدون أن تترك أثرا إيجابيا وحاسما على جوهر ومصير القضايا التي يفترض أنها تدافع عنها.

إن هذه الأهمية القصوى للقوة هي أكبر محفز ليس فقط للدول الضعيفة لامتلاك ما أمكن من عناصرها، وإنما للدول القوية أيضا التي تواصل العمل من أجل الاستحواذ على أكبر قدر من مقومات هذه القوة الناعمة منها والخشنة لتظل مسموعة الكلمة، مهابة الجانب، وقدوة للآخرين، وذلك من خلال:

*منع الدول وبعض التنظيمات العابرة للحدود ذات طموحات واسعة المدى من التمكن من بناء قوة متكاملة العناصر يمكنها المساعدة في بروز توازن دولي جديد أو في تحقيق ما يسميه الخبراء بالتكافؤ الاستراتيجي. ولاشك أن أفضل تعبير في هذا السياق هو ذاك الذي أعلنه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن في مستهل تقديم الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي غداة أحداث 11 سبتمبر 2001 بقوله” إن علينا واجب بناء دفاعاتنا وإبقائها بعيدة عن أي تحدي”.

* السعي إلى تأسيس تحالفات راسخة مع دول قريبة منها جغرافيا أو مماثلة لها في القيم والمعتقدات الفكرية والثقافية والدينية وغيرها ليس فقط لتأمين الدفاع كما تدعي في مواثيق تلك الأحلاف، وإنما لتأمين المصالح وتوسيعها وتكريس ديمومة تفوقها. لقد كان المنطق يقتضي بعد تفكك حلف وارسو أن يتم حل حلف الشمال الأطلسي الناتو باعتباره حلفا دفاعيا وفق أحكام مادته الخامسة، ولكن غطرسة القوة إثر انهيار الاتحاد السوفياتي دفع القائمين عليه إلى إضافة مهمة هجومية لطبيعة لتبرير بقائه وتمديد عمره تم تسويها بالرغبة في سرعة الاستجابة للأزمات الطارئة.

ورغم كل هذا، فقد أثبتت تطورات الساحة العالمية أنه لا يمكن لجهة واحدة أن تتحكم بمفردها في ديناميكيات العلاقات الدولية وضبط بوصلة اتجاهها، لذلك سيستمر سعي كافة البلدان والأمل بلا كلل لامتلاك ما أمكن من عناصر القوة، ككيانات منفصلة أو ضمن تكتلات.

فهل يستوعب العرب ذلك؟ إن أول خطوة في هذا الاتجاه تبدأ بالكف عن الحديث بلغة الأماني والتسويف فهو آنذاك إما هروب من حقائق الواقع أو تستر على مرارتها.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة