الاتحاد السوفييتي لم يمت…روسيا امتداد له والقائد الجديد للقطب الشرقي

اعظم سؤال لم يطرح بعد بشكل مباشر هو: هل روسيا امتداد للاتحاد السوفييتي؟ هل روسيا هي الوريثة الشرعية للاتحاد السوفيتي؟

اذا كان الجواب بلا فقد حسم الأمر، ووجب قراءة كل الأحداث الأخيرة بمعزل عن سيرورة القطب الشرقي التاريخية. أما إذا كان الجواب ان روسيا مولود جديد للاتحاد السوفيتي و تتحرك طبقا لهذا التاريخ كوريث شرعي فتحليلنا سيحيلنا بشكل اوتوماتيكي على إحضار التاريخ و اعتبار الأحداث الأخيرة منذ أن نفضت روسيا الغبار عن صناعتها واقتصادها وووجودها الدبلوماسي السياسي كاستمرارية للصراع بين الشرق و الغرب واستخلاص خلاصة جوهرية: سقوط كل النظريات التي بنيت على انقاض حائط برلين. لماذا و كيف؟

استهان العالم الغربي بروسيا والقطب الشرقي عموما لعقود بعد سقوط جدار برلين. لم تكن تخلو نشرة اخبار او برنامج اعلامي حول روسيا من صور الصدأ يعلو مصانع روسيا، و طابورات البحث عن خبز، و صور التخلف و السقوط الحضاري العام لدولة تزعمت قطبا نافس القطب الغربي و أخافه وتنافس معه في الأرض وفي النجوم. كتبت كتب ومقالات ونشرت تحاليل ونظريات مثل نظرية نهاية التاريخ احتفالا بانتصار القطب الغربي، والمنهاج الحضاري الغربي على القطب الشرقي ومتزعمته الرئيسية: الإتحاد السوفيتي وقلبها روسيا. عم العالم فكرة بنكهة الحقيقة المطلقة: انتهت الحرب الباردة والساخنة بفوز القطب الغربي واندحار القطب الشرقي اندحارا مهينا.

لكن…

تولد روسيا من رمادها، تجدد اقتصادها، تؤسس لوجودها الجيوسياسي، تصلح مؤسساتها وتقويها لتستقر كقوة فتية تزن وتفرض الاحترام وتجذب إليها حلفاء جدد كما كان الاتحاد السوفيتي تماما. لا يمكن القول عن روسيا والصين و الدول التي أعادت عهدها مع القطب الشرقي الذي يحاول مأسسة وجوده مع بادرة البريكس بأنها دول فقيرة و تائهة في التاريخ. بعضها التحق بمنطقة شينغن، بالاتحاد الأوروبي، بلدان أخرى نفضت عنها غبار النسخة الستالينية من نظام الشرق، تحاول بناء اقتصادات قوية عصرية و معصرنة.

وكأننا أمام تجديد للبيت الإشتراكي و تحيين له بتجاوز هفوات الإتحاد السوفيتي والدول التي عانت من استبداد الشيوعية الستالينية الكاجيبية المخابراتية. تحركت الصين، دولة الحزب الشيوعي الواحد، دولة ساحة تيانانمين، فأصبحت من اعظم الإقتصادات في العالم اكثرها تنافسية حتى قتلت الصناعات الأوروبية واجتاحت سلعها العالم كله. بل ان دولا عظمى صناعيا اعترفت بعجزها عن منافسة الصناعات الصينية.

جيوسياسيا، توغلت برفق وذكاء في افريقيا وربحت رهان المنافسة الدولية في عديد مواقع. روسيا حدث ولا حرج. عرفت حكامة حازمة ونية حقيقية في تجاوز الأزمة الحضارية العامة التي شهدتها المنطقة بعد البيريسترويكا مباشرة. بل عاش العالم هذه السياسة الإصلاحية كاعتراف بانهزام النظام/ القطب الشرقي الشيوعي.

جيوسياسيا، روسيا اليوم، مسندة بحلفاء الأمس، أصدقاء التاريخ، تسجل حضورها بقوة على أرضية الخارطة العالمية بدون عقد وبثقة عالية جدا. لبس من السهل مواجهة الغرب العام في حرب أريد منها ان تكون آلية لاختبار قوة روسيا ولم لا تركيعها عسكريا.

المساعدات الغربية لأوكرانيا، مهما كان الموقف من الحرب، مساعدات تتجاوز المعقول في ظروف تعيش اقتصاديات الدول المانحة أسوأ مستوياتها بل وتتجاوزها روسيا في نسبة النمو في وقت كان مقررا خنق الاقتصاد الروسي بعقوبات و مناوشات عسكرية و ديبلوماسية. لم تهتم روسيا لبروباغاندا الغرب الذي انتظر طويلا “الهجمة الكبرى” لأوكرانيا على روسيا التي وعد بها زيليسينكي الغرب لربح أكبر عدد ممكن من المساعدات. دولة واحدة تواجه تكتل أقوى وأعظم القوى العالمية وهل هناك أقوى من الإتحاد الأوربي و الولايات المتحدة الأمريكية؟

ومع ذلك، لم تكتف روسيا بالاهتمام بحربها ضد من يمكن تشبيههم بانفاصليين تتعامل معهم روسيا كما تتعامل مع حركة انفصالية غير ذات أهمية، بل اتخذت مبادرات تاريخية واعتمدت الهجوم السياسي الإستباقي.

تلتقي بقيادات افريقيا وتؤسس معهم لشراكات مستدامة، تدير خطوط البريكس بحكمة، تحرك حلفاءها بروية و بدون ضجيج فقط بالاشارات العملية بالخصوص تجاه الصين، ثاني اثنين إذ هما في صراع وجود إذ يقول الروسي الصيني لا تحزن، فإني مهاجم وتقول الصين بانها موجودة لاسناد روسيا دون كثير لغط، وكثير تصريحات. لكن العالم يعلم ام روسيا مسندة فعليا واستراتيجيا من طرف الصين.

لم تكتف روسيا بالتواجد في سوريا و مواجهة داعش و اخواتها ومن يقف وراءها، ولم تكتف بحضورها الافريقي، ولا بمشاركتها الفعلية، بل والمبادرة في التأسيس للبريكس، بل ذهبت ابعد من ذلك. آخر خرجات روسيا كانت على شاكلة صفعة للغرب من خلال توسط قواتها لحفظ السلام لإنهاء الصراع العسكري بين الانفصاليين الأرمن والأذريبيدجانيين. بسرعة البرق، أبرمت اتفاقية وأسقطت أسلحة الانفصاليين تاركة للغرب، لبروكسيل، اعينها للبكاء وترديد عبارات التنديد والتشكيك. لكن الحقيقة واضحة إذ نجحت القوات الروسية حيث فشلت الأمم المتحدة تزامنا مع الإجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، الهيئة المفروض فيها حفظ السلام في العالم. فعلتها روسيا أمام مرأى ومسمع العالم.

معطيات عديدة توحي بأن القطب الشرقي لم يسقط مع انهيار جدار برلين، لم ينهزم ولم ينته التاريخ لصالح الليبرالية الديموقراطية المعولمة على المنهاج الرأسمالي الغربي.

معطيات توحي بأن روسيا وريثة الاتحاد السوفيتي والتاريخ بالنسبة إليها لم ينته و لم تنهزم، فقط تخلفت خطوة من أجل القفز خطوتين إلى الأمام. الوجود الشرقي وجود فتي مقارنة بالوجود الرأسمالي. كان من الطبيعي ان تمر هذه التجربة من مرحلة اليوتوبيا لمرحلة البراغماتية واقتضى هذا الانتقال سنوات قرئت على أنها فشل، لكن من قاموا بهذه القراءة، و خلصوا إلى فكرة ان القطب الشرقي خلصلوا إلى أنهم أخطأوا التقدير، وخانوا منهجية التاريخ وسيرورته.

التاريخ لا يتوقف بانهيار جدار.

القطب الشرقي في تكون جنيني تحاول روسيا جاهدة ان تهيء الظروف لتعيد روسيا للقطب الشرقي امجاده في وجه غرب متهم بفرض نظامه القيمي والحضاري عموما. تقاوم هذا القطب بنظام بديل و خطاب سياسي مستساغ و الدليل انها تحقق انتصارات كبيرة على كل المستويات، وتتحدى الغرب بذكاء وبقوة ولسان حالها يقول: مات الاتحاد السوفيتي، عاش الاتحاد السوفيتي.احترق القطب الشرقي ومن رماده ولد القطب الشرقي مرة اخرى أكثر قوة، وأكثر ذكاءا متجاوزا بذلك هفوات الماضي.

عبد الغني العيادي

كاتب، مترجم ومحلل سياسي، خبير في الشؤون الأوربية وقضايا المناخ، خريج مدرسة المترجمين الدوليين و جامعة مونس ببلجيكا، عمل ملحقا سياسيا في البرلمان الأوروبي، ضيف على قنوات دولية لتحليل الشأن الأوروبي ( بالعربية، الفرنسية والانجليزية).