الأكيد في تناولنا لموضوع افريقيا بالتحليل و تمحيص الأحداث، أن لا أحد يمتلك مفاتيح الفهم طالما الأمور معقدة و مركبة. طالما الحقيقة لا يمكن أن تعرف خارج كواليس الأنظمة و الصراع الدولي وطالما هذه الحقيقة في حد ذاتها معقدة مركبة يتداخل فيها التاريخي بالحاضر والبشري بالسياسي.
كما أنه منهجيا يحتار المحلل بين التحليل ثنائي القطبية. لا خيار له غير القول إما بذاتية المشاكل التي تعاني منها القارة أي البحث عن المسؤولية من داخل الذات الافريقية او بموضوعيتها اي بإلقاء مسؤولية ما تعيشه الدول المكونة للقارة الأفريقية من عجز وضعف وهوان على الآخر المستعمر المستغل كما صرح بذلك بقوة الأب فرانسوا الأول بالغابون ذات زيارة او كما وصفه الاقتصادي المصري سمير أمين بالتبادل اللامتساوي.
المؤكد ان المسؤولية مشتركة تجعل منها فريسة سهلة في أيدي الاستغلاليين القدامى والجدد، استغلاليوا الداخل من القيادات السلطوية المرتشية اللاوطنية و استغلاليوا الخارج من قوارض النظام الرأسمالي والصراع الدولي عموما.
يحتار المحللون ايضا بين قراءة إيجابية متفائلة تتنبأ بمستقبل زاهر لافريقيا بناءا على معايير علمية و معطيات واقعية مادية ملموسة. قراءة تحيي قوة القارة على المقاومة و مخالفة النماذج الدولية الغالب عليها طابع الاستهلاكوية والإنتاجوية. تلك النماذج الشرقية والغربية المهددة للمناعة الجماعية ضد أهوال الوجود من اوبئة وفقر وجفاف قاومتها الشعوب الافريقية ولا تزال بحكمة مختلفة عن منطق الغرب مما يجعل منها حضارة قائمة بذاتها ولذاتها؛ حضارة مختلفة نسقيا عن بقية الحضارات. وبين قراءة متشائمة تؤسس لتشاؤمها على تجربة التاريخ بافريقيا، تجربة صراعات دموية و فساد تدبيري و تخلف حضاري وانقلابات عسكرية وضعف اقتصادي مستدام .
في كل الحالات، يعترف الجميع بأن افريقيا قارة مثل بقية القارات وإن كانت اغناها. دخلت مرغمة وبشكل طبيعي كما بقية دول العالم في إطار نظام عولمي يجعل من العالم قرى صغيرة مرتبطة ارتباطا نسقيا على كل المستويات، متداخلة لمصالح و مترابطة.
لا تخرج الدول الأفريقية عن هذا الواقع، تتأثر و تؤثر في سيرورة العالم بطريقة او بأخرى. ليست بمعزل عن العالم ولا تتحكم فيها قواعد خاصة بها لا تتحكم في بقية دول العالم. إخراجها من هذا الوضع واعتبارها حالة خاصة إعادة للأبوية الغربية والاستصغار الذي تعاني منه الشعوب الافريقية منذ قرون.
تعيش دول القارة الأفريقية مسارا تاريخيا طبيعيا بالنظر للمعطيات التاريخية التي مرت بها. عقود الاستعباد ليست هي عقود الاستعمار ومرحلة الاستعمار لها خصائصها التي تختلف عن مرحلة ما بعد الاستعمار وبناء الذات المستقلة عملية معقدة تتطلب وقتا وشروطا موضوعية وذاتية معينة لإنجاحها.
هذا المجهود العام في بناء الذات المستقلة وضعت الدول الأربع و خمسين المكونة للكيان الافريقي المتعدد المشارب والثقافات والخيارات. واجهت ولا تزال تواجه تحديات متعددة وعلى رأسها واقع الاستغلال الداخلي والخارجي لخيرات افريقيا المتعددة و المختلفة والتي تجعل منها قارة قادرة على الفعل الإيجابي من داخل العولمة.
بناء الذات المستقلة عملية مركبة معقدة تنضبط لشروط جيوسياسية، لم تمر ولم يكن لها أن تمر و تتأسس بسهولة. منطقيا من غير المعقول أن تفكك آليات الاستعمار فقط لأن الشعوب تواقة للإنعتاق والحرية والاستقلالية.
اذا اعتمدنا نظرية الصراع الحضاري لهانتينغتون فافريقيا ليست بمعزل عن هذا الصراع الحضاري الشامل للإقتصادي والثقافي والسياسي باعتبار تداخل كل هذه المعايير لرسم خارطة صراع مصلحي بين الأمم. فلا المستعمر السابق مستعد لفقدان مصدر من أهم المصادر المعدنية والبشرية والطاقية للمستعمرات الأفريقية السابقة ولا الدول الأفريقية الطامعة في الاستقلال التام والتنمية مستعدة لاستدامة حضور المستعمر السابق الذي خرج من الباب وعاد من النافذة عبر ما يمكن الإصلاح عليه بالاستعمار المفوض وهو أقل تكلفة من التواجد العسكري.
سيرورة تاريخ افريقيا أرادت لهذه القارة أن تعيش الاستعباد ثم الاستعمار المباشر والاستعمار المفوض ثم تدخل المنظمات الدولية النقدية والمالية لوضع افريقيا عموما تحت الحجر للخروج من مرحلة السكتة القلبية خاصة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. لتتدخل الصين في العقدين الاولين من القرن الواحد والعشرين و تتموقع كمستغل جديد، طامع في الكعكة الافريقية. واليوم تتدخل روسيا، عبر فاغنر، كقوة انتهازية لأخذ حقها من الكعكة مثلها مثل كل الاستغلاليين الجدد.
سيرورة التاريخ هذه والتي تتحكم فيها شروط و قواعد معقدة، افرزت ايضا صحوة أفريقية واعية بقدرة افريقيا على المنافسة و الخروج من مستنقع التبعية الاقتصادية. صحوة تأسست على قناعة راسخة بأن لافريقيا كل المقومات لتصبح في مقدمة العالم وليست تابعة له، غنية بمعادنها وديموغرافيتها و جغرافيتها وتاريخها و منهاجها الحضاري في مواجهة تحديات الوجود كالأوبئة و التغيرات المناخية و الإجتماعية. واعية بنموذجها الحضاري المؤسس على الزهد والتضامن الاجتماعي والصبر والمصابرة وعقلنة الاستهلاك. واعية ايضا نخبها بأنها ورثت من الاستعمار بالتفويض قيادات سلطوية و مرتشية في خدمة مصالحها ومصالح المستعمر المستغل السابق.
على رأس هؤلاء الاستغلاليين التقليديين من الداخل و الخارج. فرنسا بنظام افرو-فرنسي ناضلت ضده النخب المناهضة للإستعمار ان من داخل افريقيا او من داخل القوى الغربية المناهضة للاستغلال الفرنسي خصوصا، و الغربي عموما. لأنه نظام مجحف في حق الشعوب الافريقية وناهب لثروات افريقيا حتى اصبحت افريقيا قارة غنية ملؤها الفقراء.
لم يكتف النهب للثروات الطبيعية بل تجاوزها لاستغلال العقول الأفريقية المكونة بأموال أفريقية. عدد الأطباء من البنين مثلا بفرنسا اكثر بكثير ممن بقوا بدولة البنين وعلى ذلك يمكن أن نقيس بقية الميادين التقنية التي تحتاجها افريقيا لتنميتها وتستغلها دول الغرب.
هذه الصحوة الأفريقية النسبية تبحث عن ذاتها و ترتكز بالأساس على الانقلابات العسكرية. مع العلم ان القاعدة التاريخية تقول بأن ما أخذ بالدم يستعاد بالدم. وهذا بالذات ما يحدث منذ عقود مما يشل حركية التاريخ داخل منظومة الجنوب عموما.
لا تمر انتخابات رئاسية في دولة أفريقية دون أحداث تفرغها من كل محتواها الديموقراطي. حتى ليتردد الواحد منا في اعتبار اي محاولة تغيير لمسار الحياة السياسية بافريقيا حدثا ايجابيا طالما أفادت التجارب السابقة بأن الصراع لا يتجاوز عتبة كرسي السلطة للتحكم في جبهة الاستغلال الداخلي. فتتكالب على افريقيا قوتين استغلاليتين: انتهازيو الداخل وانتهازيو الخارج.
فما الجديد الذي تطرحه انقلابات مالي وبوركينافاسو والنيجر والغابون مؤخرا؟ هل تخرج هذه العمليات عن سابقاتها و هل لنا أن نعتبرها بداية عهد جديد يكسر جبهة المستغلين الخارجيين ومستغلي الداخل؟ خاصة وأننا أصبحنا نقرأ هنا و هناك عبارات مثل الربيع الافريقي وغيرها من العبارات التي تعبر عن رغبة حقيقية في التغيير. عبارة نفضل اعتماد بديل لها باعتمادنا عنوانا عريضا مفتوحا على كل الاحتمالات ” الصحوة القومية الأفريقية “.
الثابت في حالة التدافع عن السلطة هو ان الانقلابات العسكرية تستدعي انقلابات أخرى. و هذا الثابت يجعلنا نحتاط من اصدار احكام واستخلاص خلاصات غير ذات جدوى. اما المتحول في حالة افريقيا في هذه الفترة ما تعرفه من زحزحة للواقع الافريقي في عدد من الدول، واللائحة ستبقى مفتوحة مذكرة ايانا بحلقة ” الفوضى الخلاقة ” بشمال افريقيا و الشرق الأوسط، هو دخول قوى استغلالية جديدة لمعترك المنافسة على خيرات افريقيا لاسباب جيوسياسية متعددة. قوى انتهازية تستخلص اجرتها من ألماس افريقيا و خيراتها الأخرى المتنوعة. حضور فاغنر و دخول روسيا للمعترك دليل على ذلك. حفنة ألماس بملايين الدولارات كافية لاستخلاص أجرة المرتزقة.
كل هذا يؤثر بشكل كبير على مصالح الاستغلاليين التقليديين وعلى رأسهم فرنسا. ضرورة سيتأثر اقتصاد فرنسا، وبشكل غير مباشر اقتصاد أوروبا بهذه التغيرات النسقية التي فرضها دخول قوى استغلالية جديدة للمنافسة على ثروات افريقيا. ليس فقط اقتصاد فرنسا بل بشكل مباشر اقتصاد أوروبا و ربما قيمة الاورو ذاته باعتبار مصدر قوة فرنسا النقدية بحضورها في نظام العملة الكولونيالية الأفريقية. اذا تنامت العدائية ضد فرنسا وتحققت الاستقلالية الاقتصادية للدول الأفريقية فأكيد ستضعف قوة فرنسا النقدية و هي واحدة من دعامات الاقتصاد الأوروبي و عملته الأورو.
نسوق مثالا حيا على هذا التأثير السلبي على اقتصاد فرنسا من خلال ادراج مثال شركة ” إيراميت “، و هي مجموعة تعدين فرنسية . فقد تحولت لأكبر شركة لإنتاج خام المنغنيز في العالم بفضل منجم مواندا بالغابون. انتجت منه أزيد من سبعة ملايين و نصف طن عالي الجودة سنة 2022.
عقب الانقلاب الحاصل في الغابون أعلنت اراميت عن تجميد كافة عملياتها في الغابون لتخسر اسمها خمس نقاط في البورصة. هذا فقط مثال. ناهيك عن وضع شركة طوطال في موقع المساءلة وهي التي تستغل البترول الافريقي دون حسيب ولا رقيب.
تجدر الإشارة الموضوعية إلى أنه على المستوى المتوسط لن يكون هناك أثر سلبي كبير اعتمادا على ما يسند العلاقات الدولية من أعراف واتفاقيات و تداخل المصالح.
خلاصة القول ان المنطق يستدعي ما يلي:
أولا : الإيمان بأن افريقيا غنية بذاتها و لذاتها وهي جزء من العالم المعولم ونخبها تحاول الخروج من التبعية والأبوية الغربية والانعتاق من قبضة الاستغلاليين. كانوا من استغلاليي الداخل او من استغلاليي الخارج. كانوا جددا او تقليديين الفتهم شعوب افريقيا وألفت استغلالهم لخيراتها. وما نظام الفرنك الكولونيالي الا مثال آخر على نمط هذا الاستغلال ما بعد الاستعمار المباشر.
ثانيا: الثقة في الشعوب الافريقية مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة الديموغرافيا الأفريقية المكونة في نصفها من الشباب أقل من خمسة عشرة سنة. المعطى الديموغرافي معطى جيوسياسي على حد تعبير نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي السابق في كتابه ” زمن المعارك”، معطى ذو أهمية قصوى و استراتيجية. مجتمعات ودول تشيخ ليست كدول المستقبل أمامها يؤسس بسواعد شابة.
ثالثا : الأخذ بعين الاعتبار وعي النخب الأفريقية المنخرطة في ما اسميناه تجاوزا بالصحوة الأفريقية بضرورة الانعتاق من التبعية الاقتصادية و السياسية لدول الاستغلال المباشر و غير المباشر لخيرات القارة المستقبل. للتذكير فهذه النخب تكونت خارج افريقيا و شربت من معين التقنية الغربية و ليس لها أن تستحي من مستواها أمام نخب الغرب.
وأخيرا وليس آخرا، بخصوص فرنسا و علاقتها بافريقيا خصوصا وموقعها في افريقيا عموما، نردد ما قال به ابن خلدون بخصوص الصراع القبلي المؤسس للتطور التاريخي. الحضارات كالإنسان، تزداد ثم تنمو ثم تشب وتقوى ثم تشيخ و تهرم لتموت و تعوضها حضارات أخرى في صراع ازلي. في حالة موقع فرنسا و الغرب عموما بافريقيا، يمكن أن نسقط عليها نظرية ابن خلدون لنخلص إلى خلاصتين ممكنتين:
إما ان تكون هذه الصحوة الأفريقية مؤسسة لمرحلة جديدة في سيرورتها التاريخية، تؤسس لقوتها بفضل ما تدخره من ثروات معدنية و بشرية و ثقافية و إما فإن الوافدين الاستغلاليين الجدد سيعيدون التاريخ لصالحهم بنفس ميكانيزمات الاستغلاليين التقليديين الذين سيستمرون في حصاد ما تبقى إلى حين.
الشعوب الافريقية تنتظر ساعتها تشتغل من اجلها و ساعتها آتية لا محالة شرط احترام خصوصية افريقيا الثقافية و شرط اليقضة ضد كل محاولة لاستنزاف القارة بشكل مستدام في صراعات عسكرية و إرهابية تستديم الاستغلال و بالتالي تستديم هذه الحالة الكافكاوية: قارة غنية ملؤها الفقراء.