كل هذه الهزائم المتتالية التي تتلقاها استخبارات أبوظبي في الخارج، وحتى تلك التي ستتلقاها قريبا في دول كانت إلى وقت قريب تعتقد أنها “ملعبها الآمن”، سببها واحد. “نهج أبوظبي استخبارات الكسل”.
تريد أن تثير الفوضى في بلد ما؟ الأمر سهل…اعتمد على الذباب الإلكتروني وانشر الأكاذيب في تويتر.
تريد أن توصل فكرة ولا يظهر أنك أنت صاحبها؟ الأمر سهل..اشتر صحفيا، أو حتى موقعا إلكترونيا، واجعل طاقمه الصحفي والإداري والمالي كله يتحركون في الرباط بإشارة واحدة من أبوظبي
تريد أن تجمع البيانات عن أشخاص تعتبرهم يشتغلون لصالح خصمك، قطر على سبيل المثال، ما عليك إلا اللجوء إلى شركات التكنولوجيا المتناثرة في تل أبيب، وأن تحصل على فيروس ك”بيغاسوس” مثلا، وأن تقوم هي نفسها ب”إعادة بيعه”، لمن يشتري، ليس فقط من جهات حكومية، بل أيضا شركات خاصة يهمها الوصول إلى المعلومة من أجل إتمام صفقة متعثرة، فالزمن زمن حرب المعلومة، ومن أجلها يمكن فعل أي شيء.
لكن، حتى نكون منصفين، إلى وقت قريب، كانت استخبارات أبوظبي تلعب بذكاء، وبمكر. كانت تجيد التخفي وراء لغات، ودول، وشخصيات غير إماراتية، كان يصعب أن تعثر على أثر، فمعروف أن لكل جهاز استخباراتي حمضه النووي الخاص به، لكن ذكاء استخبارات أبوظبي كان أنها كانت “ترتكب” عملياتها من خلال “استئجار” الحمض النووي للآخر، إلا أنها منذ تطبيعها الكامل، والمتهافت، على إسرائيل، والتقاطها ل”اتفاقية أبراهام” بعد ترجل ترامب وكوشنر عن ركب السلطة، وقعت في فخ “الغرور”، و”الجهل” أيضا، واعتقدت أن تحالفها مع إسرائيل، واتفاقية أبراهام سيقويها، وأن ما يجمعها مع استخبارات تل أبيب، أقوى من ذلك الذي يجمعها باستخبارات المملكة المغربية مثلا، وأن دولتين ناشئتين مثلها ومثل إسرائيل سيحولهما إلى “توأم سيامي” سيمكن أبوظبي من إقناع واشنطن أنه يمكن الاعتماد عليها مثلما تعتمد على تل أبيب، وأنها بذلك ستتمكن من تحقيق حلم محمد بن زايد وإخوته الأشقاء في أن يتخلصوا من عقدة السعودية، وسينتقمون لوالدهم زايد من ال سعود، وستتمكن أبوظبي من جعل الإمارات”زعيمة المنطقة”.
استطاعت استخبارات أبوظبي تحقيق بعض النجاحات، وبدأت تخطئ يوم لم تعد تتحمل البقاء في الظل، وسعت إلى الحصول على “الاعتراف” من العالم. أرادت أبوظبي أن يعرف العالم أن هذه الدولة التي لم يكن يسمع بها أحد إلا ك”دبي”، هي الجمهورية البحرية الصاعدة، هي “جينوا” و”البندقية” ذات زمن، فعرضت المال على كل ما ترغب في الحصول عليه، خاصة إذا كان هذا المرغوب في ملك قطر، وتزيد أهميته في عينيها إذا كانت المملكة العربية السعودية من تملكه.
امنت أبو ظبي اولاد زايد بأن كل شيء قابل للشراء، يمكن بالكثير من المال شراء شخص واحد فقط لتملك كل المكان. قد يكون الجيش، قصر الحكم، جهاز الأمن، الصحافة، الأحزاب السياسية، وزراء الحكومة، وحتى رجال الدين “التقاة”، بل حتى الاستخبارات. وبذلك تكون مسمار جحا الذي اخترق الأعمدة التقليدية للحكم، أو هكذا اعتقدت، وما التسريبات التي تحدثت عنها صحيفة “ميديا بارت” الفرنسية بالأمس الخميس في تحقيق بعنوان “تسريب بيانات يكشف اختراق الإمارات لاستخبارات فرنسا”، يوم استيقظت الرباط على حاكم من أبوظبيإلا عقابا من استخبارات فرنسا على “غرور” استخبارات أبوظبي، التي اعتقدت أنها بالمال استطاعت وضع يدها على الجهاز الاستخباراتي لدولة في مكانة فرنسا، ولم تنتبه إلى أنها مثلما كانت وراء تفجير ما يعرف ب”قطر غيت”، و”ماروك غيت” عبر ملف من المعلومات كامل قدمه طحنون بن زايد لاستخبارات فرنسا التي حاولت بدورها تسخيره لصالحها، وتنتقم من الاتحاد الأوروبي الذي يعرقل طموحات ماكرون في “السيادة الأوروبية”، فإن هناك من هو داخل فرنسا من يفضل خدمة مصالح المغرب، وقطر، والسعودية، على الإمارات.
وهنا نطرح السؤال:”ماذا تريد أبوظبي من فرنسا؟”، وللرد عليه، علينا أولا أن نتساءل:”ما الذي تريده فرنسا من أبوظبي؟”.
يحاول إيمانويل ماكرون أن يواصل الاعتماد على الحظ الذي حمله إلى كرسي الرئاسة غير قادم من السياسة، في زمن تقهقر سلطة السياسة أمام سلطة المال، ويرى في حرب أوكرانيا روسيا فرصته للانتقام من إحباط ترامب له، لإنقاذ فرنسا.. ماكرون يقسم أوروباوتحجيم طموحاته بأن يدخل التاريخ باعتباره الرئيس الفرنسي الذي لم يزح فقط ألمانيا من صدارة أقوى دولة في أوروبا، بل أيضا يحقق ما هو أكثر من “الحكم الذاتي الاستيراتيجي” الذي تطالب به ألمانيا، إلى تحقيق”السيادة الأوروبية” التي يحلم بها ماكرون. لإنقاذ فرنسا.. ماكرون يقسم أوروبا استقلال أوروبا عن الولايات المتحدة على مستوى صناعة الدفاع، وتحقيق حلمه ومحيطه في أن يكون لأوروبا جيشها الخاص.
يسعى ماكرون رئيس الدولة الأوروبية الوحيدة المتوفرة على القوة النووية، إلى تقوية الصناعة الدفاعية لفرنسا، وضمان استقلالها عن واشنطن، ويمتنع عن تسليح أوكرانيا حتى لا يثير غضب صديقه بوتين، ولا الصين، بل إنه لا يجد غضاضة في أن يحول فرنسا إلى دولة وظيفية تخدم مصالح روسيا بوتين التي سددت له الضربة تلو الأخرى في إفريقيا، ويحاول إقناع الغرب بقيادة واشنطنفي أوكرانيا..يتفوق بايدن على ماكرون وشولز وديانتيس بأن المفاوضات من أجل السلام هي الحل الوحيد لتخليص أوكرانيا من أنياب بوتين، بل إن ماكرون لم يتردد في أن يقول إنه لا بأس في التنازل عن السيادة الإقليمية مقابل السلام، أي أنه دعا أوكرانيا إلى القبول بالأمر الواقع، وترك الأراضي الاوكرانية التي وضع بوتين يده عليها مقابل عدم فقدان المزيد، وعدم الاستمرار في المقاومة، وهو المقترح الذي جر عليه غضبا في صفوف ديمقراطيي واشنطن.
تعثر ماكرون في تحقيق حلمه بأوربا مستقلة دفاعيا، ووجد مقاومة شرسة من الاتحاد الأوروبي الذي منعه من الوصول المباشر للتمويل، ما وراء عشق فرنسا القاتل لروسيا..وهنا كانت الثغرة التي تسللت منها أبوظبي إلى مراكز القرار في باريس. فرنسا في العالم العربي: التحرك لافت والتأثير باهترأت في حاجة ماكرون إلى المال فرصتها لتقدم نفسها له كحساب بنكي مفتوح لأحلام ماكرون ورفاقه الفرنسيين الذين يحلمون ب”فرنسا الأولى”.
تصادف أن صعود ماكرون إلى كرسي الحكم، وصعود أحلامه معه بأن يكون “زعيم أوروبا”،هل استنفدت الدبلوماسية الفرنسية إمكاناتها زمن إيمانويل ماكرون؟ كانت تتزامن مع قرار محمد بن زايد بأن يصبح بدوره “زعيم العالم العربي”، يجد ماكرون في ألمانيا خصما ومنافسا يعيق أحلام فرنسا، كذلك يرى بن زايد في المملكة السعودية الخصم الذي يذكره بحجمه.
ليس هذا فقط. في الحقيقة، تلتقي أبوظبي، ولا نتحدث عن الإمارات العربية المتحدة، بل عن إمارة أبوظبي وعيال زايد، في كثير من النقاط مع فرنسا. ليس فقط في أن أبوظبي تشم في فرنسا عبق التاريخ الذي تفتده هي الدولة الناشئة، لدرجة أنها اعتقدت أن افتتاح متحف لوفر أبوظبي، وجامعة السوربون وغيرها من “الماركات الفرنسية”، على أرضها كفيل لأن يجعل عبق التاريخ عطرا ملتصقا بجسد أبوظبي، بل تجتمع باريس وأبوظبي في نقطة مهمة وهي موقفهما من الدين الإسلامي، إلا أن الفرق هو أن فرنسا اللائكية لا تخفي خصومتها مع الإسلام، وهي الشجاعة التي لا يتوفر عليها محمد بن زايد، ويفضل الاختباء وراء حجة أنه يطارد الإسلام السياسي، ما لا يستأصل بالسلطة أذبه في السلطةوجماعة الإخوان المسلمين التي كان نفسه عضوا بها، وأنه يعتبر أن هؤلاء هم رعاة الإرهاب، وأن هذا يشفع له الدعم القوي الذي يقوم به تجاه التيارات المسيحية واليمينية المتطرفة في أوروبا، ولا يتردد في دعمها مادام في نظره أن العدو واحد، وأن هذا سيخلصه من شبح الإسلاميين، ومن قوة الدين في الإطاحة بالأنظمة مثلما فعلت في الربيع العربي، وأنه يريد التخلص من كابوس “الربيع العربي الملكي”، ولو كان مقابل هدفه ليس فقط وضع اليد مع فرنسا واستخباراتها من أجل مطاردة الإسلاميين، وتفكيك شبكتهم، بل حتى لو كان تفكيك مؤسسة إمارة المؤمنين في المغرب نفسه، والمساهمة في تشويه سمعة العاهل المغربي ولو بتسريب فيديو له وهو رفقة أصدقاء في باريس يمارس حياته كأي مواطن، بل حتى لو استدعى الأمر حصار كل من احتفلت بهم السعودية، والتقط صورة مع السعودي تركي ال الشيخ، ليتابع بتهمة الاغتصاب، مثلما يحدث مع لاعب كرة القدم أشرف حكيمي، ومثلما حاولت سابقا أن تفعل مع لاعب مغربي اخر يتواجد بدوره في أوروبا هو زكريا بوخلال، والذي حاولت ومن على أرض المغرب أن تظهره ك”إرهابي محتمل”، وأن تظهره معه العاهل المغربي، والاستخبارات المغربية ك”رعاة للإرهاب”، بعد التقاطه صورة مع اللاعبين وأمهاتهم اللواتي كان نصفهن محجبات وبينهن منقبة، وهي الصورة التي بثت الرعب في قلب ماكرون وبن زايد، المغرب.. ثقة بالنفس جديدة!مثلما أغضبت هذا الأخير صورة عبد اللطيف حموشي مدير الاستخبارات الداخلية والأمن المغربي، وياسين المنصوري مدير الاستخبارات الخارجية للمغرب، وهما يتابعان معا ومن ملعب الدوحة مباراة بين المغرب وكندا.
سنة 2017 التي صادفت تولي ماكرون الحكم، هي نفس السنة التي ستلتفت فيها أبوظبي لباريس، وستبدأ باستقطاب صحفيين فرنسيين كخطوة بداية نحو خطوات أكبر، فبعد تجربته في مصر، لم يعد محمد بن زايد يسمح للإخوان المسلمين بأن يفلتوا من قبضته، أوروبا تنتظر مصالحة جديدة بين فرنسا وألمانياوباريس تحولت إلى ملجأ للنشطاء سواء كانوا إخوان، أو من اليسار، وسواء كانوا مصريين، أو مغاربة، كما أن بن زايد بات يتقفى أثر قطر أينما تواجدت، بل أينما سبقته.
بدأت أبوظبي بصحفي مصري وفرت له كل الإمكانيات ليبدأ عملية الاستقطاب، ثم اسغنت عنه وبدأت تستعين بكل ما تراه جديدا، يهوديا فرنسيا كان، أو تونسيا، أو جزائريا، أو حتى مغربي، وحتى لو كان فرنسيا خالصا، لا يهم، المهم أن تبني أبوظبي شبكة علاقات في فرنسا تمهد لها الطريق لتقديمها على أنها الدولة القوية في المنطقة العربية القادرة على أن تكون بديلا للسعودية، وللمغرب، وتكون الدولة الوظيفية التي تعتمد عليها فرنسا في إفريقيا، بل حتى في المغرب نفسه. وهي التي ستحمي “أمن أوروبا” من “الإرهاب الإسلامي”.
تحاول أبوظبي جاهدة أن تقنع باريس ودول الغرب بأنها القادرة على حماية الغرب من الإرهاب والتطرف الإسلامي، دون أن تنتبه أن إبمانويل ماكرون نفسه اختار قناة الجزيرة ليخاطب المسلمين في أكتوبر سنة 2020، أي نفس السنة التي اختارت فيها الإمارات التطبيع الكامل مع تل أبيب، ورغم محاولات أبوظبي الحفاظ على انتباه ماكرون لها، ولو بتضليله بأن من استعمل “بيغاسوس” للتجسس عليه هو المغرب في محاولة لدفع الشك بعيدا عنها، المغرب وإسرائيل ولبس بيغاسوس!ورغم محاولاتها منع أي تقارب سعودي فرنسي يهدد طموحها في أوروبا خاصة أن السعودية نفسها استطاعت الوقوف في وجه جو بايدن، بل جعلته يحضر إلى الرياض، و”يقبل الخاتم”، استرضاء لمحمد بن سلمان، فقد فشلت أبوظبي في ذلك، ولم تحسب حساب “تعنت المغرب” مع فرنسا، ولا حساب مضي محمد بن سلمان قدما، وبعيدا عن أزمة خاشقجي.
لم تتعلم أبوظبي من الدرس الأمريكي، ولم تستفد من تجربتها مع واشنطن في عهد ترامب، وإلا لكانت فهمت أن تقرب أبوظبي من محيط صناع القرار في واشنطن سرعان ما انهار بصعود جو بايدن، وتم تسريب أسماء كل الذي اشترتهم أبوظبي، ومنهم من توبع قضائيا، ومنهم من اتهم بالعمالة لدولة أجنبية، وفرضت واشنطن عليها المصالحة مع الدوحة مقابل التغاضي عن “أبو ظبي بيت الجاسوسية”، وهذا ما سيتكرر مع أبوظبي في علاقتها مع إيمانويل ماكرون، بعد رحيل هذا الأخير.
على أبوظبي أن تعي جيدا أنها لتتفادى تكرار هزيمة ما بعد ترامب، ولا تتلقى نفس الصفعة بعد رحيل ماكرون، عليها أن تتخلى عن “استخبارات الكسل”، وأن تؤسس رؤية واضحة، وتبني استيراتيجية محكمة لتنفيذها معتمدة على عقول نابغة، وليس فقط على حفنة من المطبلين، وربما هذا الشيء الوحيد الذي على أبوظبي تعلمه من الرياض، وتقليد الدوحة فيه.
غير ذلك فكل ما يحصده عيال زايد هو أن الإمارات باتت “دولة سيئة السمعة”.