الانتخابات الموريتانية: هل يتجاهلها الإعلام المغربي أم يجهلها؟

شهدت موريتانيا يوم 13 مايو 2023 اقتراعا عاما تم بموجبه انتخاب جمعية وطنية جديدة (مجلس النواب)، وتجديد مجالس 13 جهة و238 بلدية، تلته دورة ثانية جرت يوم 27 مايو 2023 في 18 دائرة لاستكمال اختيار بقية أعضاء الجمعية الوطنية البالغ عددهم 176.

وبعيدا عن النتائج التي أسفرت عنها هذه الاستحقاقات الانتخابية، التي يجمع المراقبون أنها كرست تفوق حزب الإنصاف الحاكم وأحزاب الأغلبية الرئاسية في مقابل تراجع ملحوظ لمختلف قوى المعارضة وفي مقدمتها حزب التجمع الوطني للإصلاح “تواصل” ذي النكهة الإسلامية، فإن ما أثار استغراب المتابعين هو أن أطوار هذا الاقتراع ونتائجه لم تنل أي اهتمام يذكر من طرف وسائل الإعلام المغربية على اختلاف منابرها، وأشكال صدورها باستثناء قيام بعضها ممن يحظى بدعم أجنبي بإعلان النتائج دون قراءتها واستشراف تداعياتها ؛ وذلك عكس المتابعة التي خصصتها وسائل الإعلام الفرنسية والاسبانية وبعض المنابر الإعلامية والأكاديمية الخليجية.

ويعود الاستغراب من عدم إعطاء الإعلام المغربي للانتخابات الموريتانية ما تستحقه من متابعة إلى أهمية الرهانات والمواقف السياسية التي أثيرت خلال الحملات الانتخابية للقوى السياسية التي شاركت في هذا العرس الديمقراطي، الذي تقول الإحصائيات الرسمية بأن 25 حزبا مرخصا خاضوا غماره بعد استيفائهم للشروط المطلوبة، وأن عدد المصوتين فيه بلغ أزيد من مليون و267 ألف شخص من أصل حوالي مليون و786 ألف هم عدد المسجلين في اللوائح، بنسبة مشاركة فاقت 71 %.

ورغم تداخل وتشابك طبيعة هذه الرهانات، وتعدد المواقف التي صدرت إبانها، فإن من الممكن تصنيفها بين رهانات داخلية اقتصادية واجتماعية ذات طابع محلي تخص الشعب الموريتاني وقواه السياسية المختلفة، وبين أخرى دولية مرتبطة بالموقع الجغرافي لموريتانيا، وانتماءاتها المؤسسية المتعددة، وتشعب علاقاتها الإقليمية والدولية، ناهيك عما تسيله ثرواتها المعدنية وخيراتها البحرية من لعاب،  وما تحققه مبادلاتها التجارية الخارجية من نمو.

وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن موريتانيا تتشارك مع المغرب مداره الجغرافي، وتشاركه إرثا تاريخيا تليدا، وروابط قبلية متجذرة، وأنها تعتبر في الظروف الراهنة بالمنطقة ممره البري الإجباري والوحيد نحو غرب القارة السمراء ووسطها عبر كل من السنغال، ومالي، فمن البديهي أن تكون معظم هذه الرهانات ورغم الخصوصية المحلية لبعضها على احتكاك وارتباط مباشر وإن بنسب متفاوتة مع المصالح العليا والمصيرية للمغرب مثلما كانت عليه دائما منذ استقلال بلد المليون شاعر.

إن النجاح الكبير الذي حققه حزب الإنصاف الحاكم بحصوله على 107 مقعدا نيابيا، واحتكاره رئاسة كل المجالس الجهوية، والفوز بالأغلبية في 165 بلدية يساهم ولا شك في تعزيز سلطة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وفي تكريس توجهاته، كما يسمح له بالترشح، إذا رغب، لولاية ثانية سنة 2024 في وضعية مريحة ؛ الأمر الذي يسمح بتوقع استمرار ذات النهج المعروف عن السياسة الخارجية الموريتانية منذ 2019، ولاسيما في الإطار الإقليمي.

وبالنظر إلى المعطيات الجغرافية والوقائع التاريخية والحقائق السكانية، فإن علاقات موريتانيا في إطارها الإقليمي الضيق أكثر كثافة مع المغرب من بقية دول الجوار الأخرى، وهي أكثر تعقيدا وحساسية أيضا، مما يفرض على المغاربة من رسميين وحزبيين وأكاديميين ورجال أعمال القيام بمتابعة دقيقة ومتواصلة للأوضاع في موريتانيا بغية السعي إلى تطوير كل ما هو إيجابي في علاقات البلدين، وتفادي إتيان أي سلوك ولو بشكل غير مقصود قد يستغله أولئك الذين لا يروق لهم صفاء الأجواء بين الرباط ونواكشوط لتأجيج وإثارة حساسيات بدأت تندثر تدريجيا.

لاشك بأن بعض الأوساط المغربية غير مرتاحة بما يكفي للموقف الموريتاني من الوحدة الترابية للمملكة، ولكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى أن موقف نواكشوط عرف تطورا إيجابيا ما يزال محدودا، ولكنه لافت، إذ انتقل من التشدد في ستينيات القرن الماضي عندما كانت موريتانيا ترفض أي مساومة على ما تدعيه من انتماء الساقية الحمراء ووادي الذهب لترابها الوطني، إلى قبول تقاسم المنطقتين مع المغرب بموجب اتفاق مدريد بتاريخ 14 نونبر 1975، ثم إلى التخلي عن أي مطالب ترابية في الإقليمين معا.

لقد أخذ هذا التخلي في البداية صبغة تآمرية ضد المغرب إثر استيلاء العقيد محمد خونا ولد هيداله سنة 1980 على السلطة منتزعا إياها من رؤساء المجالس العسكرية للخلاص الوطني الذين كانوا قد انقلبوا بدورهم على الرئيس المختار ولد دادة سنة 1978، وإذعان نظامه للضغوط الجزائرية بالتوقيع يوم 5غشت 1979 على اتفاق يعترف فيه ب “البوليساريو” باعتبارها الجمهورية الوهمية المعلنة في مخيمات تندوف سنة 1976، ويتخلى لها بموجبه عن إقليم وادي الذهب، الذي سمي في وثائق الطرفين ب”تيريس الغربية”.

وكما كان متوقعا آنذاك، فقد سارع المغرب إلى إجهاض عملية تنفيذ ذلك الاتفاق باسترجاعه يوم 14 غشت 1979 لإقليم وادي الذهب واستكمال وحدة ترابه في الجنوب، فيما عبرت فئات واسعة من الشعب الموريتاني عن رفضها لتوجهات ولد هيدالة، مما عجل ببروز حركة تصحيحية داخل الجيش الموريتاني سنة 1984 أطاحت هذا الأخير وقادت العقيد معاوية ولد الطايع إلى سدة الرئاسة.

ورغم أن الرئيس ولد الطايع لم يستطع طيلة 20 سنة من الحكم التراجع عن خطيئة الاعتراف بجمهورية المخيمات، إلا أنه أرسى لبنات سياسة تروم البقاء على الحياد في النزاع المفتعل شمال موريتانيا، متخذا مواقف متأرجحة يتحصن فيها خلف القرارات الدولية ذات الصلة بالموضوع، وهي السياسة التي ظل  وفيا لها كل من الرئيس محمد ولد الشيخ عبد الله، ومن بعده الرئيس محمد ولد عبد العزيز رغما غياب مشاعر ود تجاه المغرب لديهما.

وبمجيء الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني سنة 2019 بدا أن موريتانيا تسعى إلى الخروج من حيادها البارد  المعبر عنه أحيانا بمواقف ملتبسة تثير الشك والريبة لدى مختلف الأطراف، محاولة أن يكون حيادها إيجابيا يصب في الجهود الدولية المحتشمة لإيجاد تسوية مرضية للجميع.

إن إرهاصات هذا الحياد الإيجابي الذي تريد موريتانيا من خلاله النأي بنفسها عن التطورات المحتملة في المنطقة ما تزال خجولة، ولكنها قائمة يمكن رصد أبرزها فيما يلي:

*عدم إبداء نواكشوط لأي رد فعل سلبي إزاء إقدام المغرب على تنظيف المعبر الحدودي الكركرات من قطاع الطرق، بل إن جهات اقتصادية وتجارية نافذة لم تخف ارتياحها لتلك الخطوة التي أمنت انسيابية كبيرة وانتظاما في التبادل التجاري بين البلدين.

*رفض السلطات الموريتانية ضمنيا لبيان الرئاسة الجزائري الذي تحدث عن مقتل ثلاثة مواطنين جزائريين يوم فاتح نونبر 2022 بالأراضي الموريتانية، إذ نفت نواكشوط مقتلهم فوق أراضيها، مؤكدة على أنها لن تتهاون مستقبلا في الرد على أي تجاوز لحدودها خارج نطاق المعابر الرسمية في تحذير مبطن لمرتزقة البوليزاريو الذين اعتادوا عبور الحدود بين الجزائر وموريتانيا بطريقة غير شرعية.

صحيح أن هذه الإرهاصات ليست كافية لإحداث الوقع الإعلامي المطلوب Le BUZZ ولإثارة شهية الإعلام واستقطاب اهتمامه، ولكن الواجب الوطني يتطلب التقاطها وتسليط الأضواء عليها والعمل على تطويرها قدر المستطاع. فالمعارك المصيرية للأوطان لا تخاض بأساليب الغوغاء، وإنما بشحذ ملكات الدهاء، وكل طاقات الذكاء.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة