استضافت السعودية يوم 19 مايو 2023 القمة العربية العادية الثانية والثلاثين باذلة كل ما في وسعها ونازلة بكل ثقلها لتحضير أجواء ملائمة لنجاحها من اجل أن تجعل منها نقلة نوعية في مسار العمل العربي المشترك بعد أن سقطت معظم القمم السابقة في فخ اجترار قرارات وإعلانات لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به، إذ ظلت تصاغ بعبارات عامة بدون إجراءات عملية للتنفيذ أو للمتابعة.
وبالفعل استطاعت الدبلوماسية السعودية على مستوى الشكل تأمين حضور أكبر عدد من قادة الدول، حيث لم يتخلف عن المشاركة إلا الذين اعتادوا عدم الحضور منذ مدة طويلة، كما تمكنت من إضفاء نوع من الإثارة على القمة، ومن استقطاب المزيد من الاهتمام الإعلامي العالمي بها بعد فاجأت الجميع بدعوة الرئيس الأوكراني لحضور الجلسة الافتتاحية للقمة، وإلقاء كلمة خلالها.
ورغم رمزية الخطوة الأخيرة وأهميتها في التدليل على وقوف العرب موقف حياد إيجابي وبناء في الصراع الروسي الأوكراني، فإنها لم تمنع تعرض الرياض لموجة انتقادات من بعض البلدان العربية القريبة من موسكو وفي مقدمتها الجزائر رئيسة القمة السابقة، التي هاجمت السعودية على المبادرة بتوجيه الدعوة للرئيس الأوكراني دون تشاور مسبق مع الآخرين، معتبرة أن ولي العهد السعودي قد قام بخوصصة جامعة الدول العربية لفائدة بلاده.
وغير خاف على المتتبعين لتطورات الساحة العربية بأن صب الصحافة الجزائرية لجام غضبها على السعودية لا يرتبط فقط بموضوع دعوة رئيس أوكرانيا لافتتاح القمة، وإنما أيضا لنجاح السعودية في تمرير قرار عودة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية، وتأمين حضور رئيسها شخصيا لأشغال القمة، وهو الأمر الذي أخفقت الجزائر في إنجازه في السنة الماضية.
وإذا كانت بعض الجوانب الشكلية المرتبطة بمجريات التئام القمة العربية لم تسلم من الانتقادات، فمن البديهي أن تتعرض نتائجها التي تضمنها “إعلان جدة” لانتقادات حادة هي الأخرى، خاصة وأن مختلف بنود هذا الإعلان، لم ترق على مستوى المضمون إلى ما بشرت به الاتصالات واللقاءات الدبلوماسية الثنائية والجماعية، وكذا التصريحات الإعلامية التي سبقت انعقاد القمة.
في هذا الإطار يلاحظ بأن صياغة مقدمات كافة البنود ظلت وفية للصياغة التقليدية المعهودة في قرارات وبيانات ومواقف جامعة الدول العربية، متأرجحة بين التجديد والتأكيد والتشديد والتعبير والإعراب والإيمان بعيدا عن استخدام صيغ تفيد التقرير والتكليف والتعهد وغيرها من المصطلحات الدالة على الالتزام بالتنفيذ والمتابعة لما يجري الاتفاق عليه والتوافق حوله داخل مختلف مؤسسات العمل العربي المشترك.
لقد تضمن الإعلان الصادر في ختام القمة العربية بجدة 11 بندا خصصت الستة الأولى منها لقضايا الساحات الملتهبة، والهواجس الأمنية لمعظم الدول العربية، فيما غطت بقية البنود قضايا الاقتصاد والتنمية وكل ما يتعلق بضرورة المحافظة على ثقافة العرب القومية وهويتهم الأصيلة، وإبراز مكونات الموروث الحضاري والفكري ودوره كجسر للتواصل مع مختلف الثقافات البشرية الأخرى.
*وكالعادة، فقد استهل إعلان جدة الإشارة إلى القضايا العربية الساخنة بالمسألة الفلسطينية باعتبارها قضية العرب المركزية، وأحد العوامل الرئيسية لعدم الاستقرار بالمنطقة مدينا “الممارسات والانتهاكات التي تستهدف الفلسطينيين في أرواحهم وممتلكاتهم ووجودهم ..” دون تسمية الجهة المسؤولة عن ذلك، ومجددا “التأكيد على تكثيف الجهود للتوصل إلى تسوية شاملة وعادلة وفق المرجعيات الدولية ذات الصلة” بدون اقتراح أو اتخاذ أي إجراءات عملية لكيفية الوصول إلى التسوية المنشودة، وضد من يعرقل التوصل إليها.
*ورغم أن وزير الخارجية السعودي كان قد برر عودة سوريا لاستئناف مشاركتها في كافة مؤسسات العمل العربي المشترك بضرورة عدم السماح باستمرار الوضع السوري المأساوي الذي يضر المواطن العادي وحده، وأن حل الأزمة لا يتم إلا بالحوار مع الحكومة السورية، فإن البند الثالث المخصص للوضع السوري خلا من أي إشارة إلى ما سبق، ومن أي تلميح لما قاله الوزير السعودي عن تفهم وجهة نظر العواصم الغربية الكبرى، وأهمية فتح الحوار معها لمعالجة ما أسماه مصادر القلق.
إن خلو هذا البند من تحميل أي نصيب من المسؤولية عما حصل للنظام السوري، ومن أي إشارة إلى حل الأزمة وفق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 دفع بعض المراقبين إلى الاستنتاج بأن الرئيس بشار الأسد عاد إلى الحضن العربي منتصرا، والتندر بأنه لن يكون مفاجئا إذا ما طلب فيما بعد اعتذارا رسميا من الذين ساهموا في تأجيج الصراع هناك، وطالب بتعويضات عن ذلك.
*ومن البديهي أن يبادر الحوثيون أصحاب السلطة في العاصمة اليمنية صنعاء إلى انتقاد محتوى إعلان جدة، لأن بنده الرابع لم يشر أبدا إلى أهمية دورهم في حل أزمة اليمن، مشددا فقط على تجديد الدعم لمجلس القيادة الرئاسي الذي ينازعهم السلطة ومن دون التأكيد على وحدة التراب اليمني على غرار ما حصل مع سوريا.
*وفي صيغة اعتبرها المراقبون مهادنة لإيران بعد استئناف الرياض لعلاقاتها مع طهران، اكتفى إعلان جدة بالنسبة للبنان بدعوة كافة الأطراف إلى الحوار لانتخاب رئيس جديد يرضي طموحات اللبنانيين ويؤمن انتظام عمل المؤسسات الدستورية بغية إقرار الإصلاحات المطلوبة لإخراج البلاد من أزمتها الاقتصادية والمالية العميقة.
*وخلافا لوثائق عربية رسمية سابقة، فإن إعلان جدة خلا هذا المرة من أي إشارة إلى الوضع في ليبيا من دون توضيح أسباب ذلك، هل هو ناجم عن طلب من الوفد الليبي أم من قناعة عربية بأن الوضع الليبي لم يعد بالخطورة الكبيرة، وهو أمر غير صحيح بالمرة، ليخلفه على صعيد الاهتمام العربي الاقتتال الداخلي في السودان وما يسببه من كوارث بشرية واقتصادية، ولكن من دون التنصيص على إجراءات عملية غير الدعوة إلى التهدئة وتغليب لغة الحوار، ودعم اجتماعات جدة ليوم 6 مايو الجاري كخطوة يمكن البناء عليها لإنهاء الأزمة.
*وقبل الانتقال إلى تناول القضايا الاقتصادية والثقافية حاول البند السادس تهدئة الهواجس الأمنية لمعظم الدول العربية بصيغة ترضي الجميع، ولكنها غير ذات طابع عملي، إذ شدد على وقف ما أسماه التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية العربية دون تحديد مصدر هذه التدخلات، وأكد الرفض التام لدعم الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة دون إعطاء مثل واحد عليها، وما أكثرها في المشرق العربي ومغربه.
وعلى ذات المنوال المتسم بالعمومية وغير الحاسم في التعامل مع القضايا العربية جاءت صياغة البنود المتعلقة بقضايا الاقتصاد والتنمية والهوية الثقافية، متحدثة عن مجرد آمال وطموحات كضرورة التكامل وتفعيل الإمكانات وتعزيز الترابط بلا خطوات عملية تخص فتح الحدود وتسهيل تنقل الأشخاص ورؤوس الأموال وتطوير التجارة البينية من خلال رفع الحواجز الجمركية وإلغاء الاستثناءات التي تكبل منطقة التجارة الحرة العربية.
ورغم أن نتائج القمة العربية الأخيرة لم تتمكن كسابقاتها من مواجهة التحديات الحقيقية للأمة العربية، مؤكدة تواصل العجز عن حسم التناقضات بين أعضائها، ومنع احتمالات الاصطدام فيما بينهم، إلا أنها منحت السعودية فرصة تسويق صورتها الجديدة كبلد رائد في المنطقة يسعى إلى تصفير مشاكلها، والإسهام بقوة في تنميتها.