المصير المشترك يوحد بين موريتانيا والمغرب..فمتى تنتبه الرباط إلى جارها الصامت؟

بدأت تطفو مجددا على السطح، ودون ضجة إعلامية كبيرة لحد الآن مسألة حقوق الزنوج في موريتانيا، إذ تم مؤخرا رصد إرهاصات لعودة هذه المسألة للواجهة من باب الحقوق اللغوية، جسدتها العريضة، التي أطلقتها للتوقيع جمعية تسمى “إحياء لغة البولار” بغية الضغط على السلطات لإضفاء طابع رسمي على اللهجات الزنجية (البولار Pular والسونينكي Soninké  والولوف Wolof والبامبارا)، وإدماجها كلغات رسمية في النظام التعليمي.

وأيا كانت الدوافع الكامنة وراء العريضة، فالواضح أن الجمعية المذكورة استغلت وجود إشارات إيجابية عن رغبة رسمية للنظر في إمكانية ترسيم اللهجات المذكورة تضمنها التقرير الوطني لإصلاح نظام التعليم في موريتانيا سنة 2021، ولكنها لم تفعل لحد الآن ليتواصل التلقين المدرسي في البلاد باللغتين العربية والفرنسية فقط.

ورغم التأكيد على الطابع اللغوي لهذا المطلب، الذي أدرجه أصحابه في إطار إبراز الثراء الثقافي لموريتانيا، فإن هنالك خشية من أن يكون بطء التجاوب مع مثل هذه المطالب مدخلا لإعادة فتح ملف الأزمة العرقية في البلاد، و للنبش في الماضي الأليم الذي شهدته أكثر من مرة منذ استقلالها، وخاصة سنوات 1966، و1986 وما تلاها. وتنبع هذه الخشية من أسباب متنوعة أبرزها ما يلي:

*حصول سابقة تاريخية لعب فيها البعد اللغوي دور الشرارة التي أضرمت آنذاك نيران حقد وكراهية بين أبناء الشعب الموريتاني، وذلك عندما حاول بعض الضباط الذين قادوا الانقلاب على الرئيس المختار ولد دادة، وفي مقدمتهم النقيب جدو ولد السالك فرض تعريب الإدارة عنوة ودون خطة، إذ نسب إليهم حينها دفاعهم عن شعار عنصري “بالدم واللهيب يتم التعريب”.

*تزايد نبرة التذمر مما تعتبره القوى المعارضة تقاعسا من السلطات في إتمام تنفيذ إجراءات المصالحة الوطنية، التي انطلقت سنة 2007 مع الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله ولم تكتمل، خاصة فيما يتعلق ببندي عودة اللاجئين، وتعويض ضحايا أحداث 1989، علما بأن مبررات تأخر التنفيذ كالانقلاب الذي حصل ضد الرئيس ولد الشيخ عبد الله سنة 2008، والتأثر برياح الربيع العربي لم تعد مؤثرة.

*وجود قوى سياسية متأهبة لاستغلال مثل هذه المطالب الثقافية والمطالب الاجتماعية، وتوظيفها في خطاباتها السياسية المتراوحة بين خطاب متطرف لأقلية ممثلة بشكل خاص في بعض قيادات حركة “قوات التحرير الإفريقية بموريتانيا Forces de libération africaines de Mauritanie” المعروفة اختصارا باسم فلام FLAM، التي لم تتردد سنة 1989 في المطالبة بانفصال جنوب البلاد ذي الأغلبية الزنجية، وبين خطاب أوسع انتشارا يطالب بالحكم الذاتي في إطار فدرالي ينصف الزنوج سياسيا، ويسمح لهم بالاستفادة من ثروات البلاد اقتصاديا.

إن أبلغ دليل على هذا التوجه حصل مؤخرا فقط، إذ لم تكتف حركة FLAM ببيان الإدانة الذي أصدرته إلى جانب منظمات أخرى في 13 ابريل 2023 ضد ترشيح الجنرال المتقاعد محمد ولد ميكيت  Meguett للانتخابات التشريعية التي جرت يوم 13 مايو 2023، ولكنها بادرت يوم 9 يوليوز 2023 وفور اختيار هذا الجنرال لرئاسة الجمعية الوطنية (مجلس النواب) إلى توجيه رسالة استنكار للأمين العام للأمم المتحدة، معتبرة ذلك إهانة لقيم العدالة، ولمبادئ احترام حقوق الإنسان ودولة القانون، مطالبة بإدانة أممية له، نظرا للاتهامات الموجهة للجنرال محمد ولد ميكيت بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في أعقاب أحداث 1989، وبالدعوة إلى تحقيق مستقل وشفاف بمجمل “جرائم الإبادة”، التي تقول الحركة إنها ارتكبت في موريتانيا ومحاكمة المسؤولين عنها، وجبر ضرر ضحاياها.

والأخطر مما سبق يتمثل في أن رسالة حركة FLAM الموقعة من طرف رئيسها مامادو سيدي با المقيم في ولاية فلوريدا الأمريكية، اعتبرت  ما تصفه بالتمييز العرقي سياسة حكومية ممنهجة من شأنها ليس فقط تهديد وحدة البلاد، وإنما وجودها أيضا ؛ الأمر الذي رأى فيه بعض المراقبين مقدمة لتراجع محتمل من الحركة عن أجواء الانفراج التي ساهمت في إشاعتها إثر عودة عدد من قادتها إلى البلاد سنة 2013، وإعلانهم نقل نضالهم إلى الداخل للدفاع عن زنوج موريتانيا.

وفي سياق الترويج أكثر لما يعتبره هؤلاء المراقبين هشاشة في الوضع الموريتاني الداخلي رغم استقراره، فإنهم يعيدون التذكير بأحداث العنف التي رافقت الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية لسنة 2019، وما سمي حينها بالحصار الإلكتروني الذي تلاها متمثلا في قطع خدمة الإنترنت عن البلاد لأزيد من أسبوع، وبتبادل الاتهامات بين السلطة والمعارضة بشأن ما قيل عن تلاعب حصل في النتائج.

في ظل هذه المعطيات المتزامنة مع أوضاع إقليمية تتسم بالاضطراب المتسارع الانتشار في المنطقة، كما يتضح من الأحداث الأخيرة في النيجر، ومن تزايد نشاط الجماعات الإرهابية المتطرفة العابرة للحدود لا يبدو مستبعدا أن تعود نبرة الانفصال من جديد في جنوب موريتانيا.

ومما لاشك فيه، فإن أطرافا دولية وإقليمية لن تتورع في استخدام عودة هذه النبرة من خلال النفخ فيها لاستغلالها كورقة ضغط على الدولة الموريتانية لتساير مخططاتها، وخاصة تلك الأطراف التي لا تنظر بعين الرضا لموقف الحياد الذي تتبناه السلطات الموريتانية في موضوع الصحراء المغربية، والتي فاجأها عدم احتجاج نواكشوط ضد عملية تنظيف معبر الكركرات من طرف المغرب، بل أبدت ما يفيد أنها ارتاحت لتلك العملية.

وإذا كانت تلك الأطراف تتفق على ضرورة الضغط على موريتانيا لمنع ترسيخ حيادها من صراعات المنطقة، والحد من تزايد أواصر تقاربها مع المغرب، فإن دوافع تحركاتها مختلفة. فالطرف الدولي الأكثر اهتماما بتطورات غرب إفريقيا ومنطقة الساحل يتحرك من وازع الحنين إلى الفترة الاستعمارية، ومن خشيته من تواصل عملية سحب  البساط من تحت قدميه في معظم بلدان المنطقة، وأيضا من امتعاضه الذي لم يعد مكتوما من نجاعة السياسة الإفريقية للمغرب التي يعتقد أنها أضرت كثيرا بمصالحه في غرب القارة السمراء.

وإذا كان هذا الطرف، كما ورد في تقارير استخباراتية أمريكية، قد فكر وربما لا يزال يأمل في إشعال حرب ضروس بين المغرب والجزائر لتأمين مصالحه الاقتصادية في عموم المنطقة، فمن البديهي ألا يتردد في البحث عن ساحة أخرى للتشويش على المصالح المغربية ولجم انتشارها، وأقرب تلك الساحات هي موريتانيا من خلال ما له من نفوذ هناك، وباستخدام كل الأوراق المتاحة لديه، ومن بينها تغذية عوامل الاختلاف اللغوي والإثني، التي كان هو من قام باختلاقها، وأججها في أكثر من مرة.

 أما الطرف الإقليمي الأكثر توقا إلى فرض نفسه قوة إقليمية بدون مقومات، فيستهويه وصف القوة الضاربة، ويغذي عنده نزعة توسعية هدفها الأساسي دغدغة عواطف الرأي العام لديه تهربا من مسؤوليته في حل مشاكله الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المستعصية.

في هذا السياق لا غرابة في أن تكون الحملة التي تشن على ما قيل عن زيارة وزير الدفاع  الموريتاني لإسرائيل ومناقشته لموضوع إقامة قاعدة عسكرية إسرائيلية بدعم إماراتي في منطقة لمرية شمال البلاد مجرد تمهيد لضغوط أخرى قادمة ضد موريتانيا، وبشكل خاص في خاصرتها الجنوبية الرخوة إلى حد ما.

لكل هذا لابد من الوعي بأن وحدة تراب الشقيقة موريتانيا هي في مستوى الوحدة الترابية للمغرب وصمام أمان لها.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة