المغرب والجزائر: لغز “العلاقات المستقرة” رغم الأجواء المتوترة

في خطاب العرش لسنة 2023 وصف ملك المغرب العلاقات الجزائرية المغربية بالمستقرة، مبديا تطلعه لأن تكون هذه العلاقات أفضل، مؤكدا على الأهمية التي يوليها شخصيا لروابط المحبة والصداقة والتبادل بين الشعبين الشقيقين، داعيا الله تعالى أن تعود الأمور إلى طبيعتها، ويتم فتح الحدود بين البلدين.

ورغم أن الملك محمد السادس اعتبر ما ورد في خطابه نوعا من الرد على تساؤلات عدد من الناس مؤخرا عن طبيعة العلاقات بين المغرب والجزائر، إلا أن الخطاب ولد تساؤلات أخرى عديدة لدى مختلف الأوساط المهتمة بما يجري في المغرب العربي، وامتداده في دول الساحل، وذلك إضافة إلى ما تثيره كلمات العاهل المغربي دوما من اهتمام واسع على المستوى العربي عموما، والمغاربي بشكل خاص.

فبعيدا عن مضامين الخطاب الودية المعهودة من ملك المغرب، وذات النبرة التصالحية المتطلعة إلى غد أفضل في المنطقة، فإن التساؤلات التي تناسلت بعد الخطاب الملكي، والتي يحاول كثير من المراقبين إيجاد تفسير مقنع لها مصدرها الأساسي كلمة “مستقرة”، التي استخدمها الملك محمد السادس لوصف مستوى العلاقات مع الجزائر، إذ كما جاء في بعض التساؤلات كيف يمكن لعلاقات مقطوعة دبلوماسيا، وبحدود مغلقة بريا وجويا أن تكون مستقرة؟ ولماذا لم تبادر الجزائر الرسمية مباشرة أو عبر وسائل إعلامها إلى تفنيد هذا الوصف؟

الإجابة الموضوعية ليست سهلة مطلقا، وما تردد عن أن الجزائر تعمدت تجاهل فحوى الخطاب الملكي ليس صحيحا، رغم ترويج هذه الفكرة وإشاعتها من طرف عدد من مواقع التواصل الاجتماعي، التي تعود لأصوات محسوبة على الذباب الإلكتروني الموجه من أجهزة المخابرات الجزائرية، وأخرى مدعومة من مخابرات بلدان عربية تسعى وبإصرار للاصطياد في البركة الآسنة لعلاقات البلدين.

تتطلب محاولة الإجابة العودة إلى تتبع وتوضيح كيفية تنفيذ خطط السياسة الخارجية الجزائرية سواء من خلال الآليات الدبلوماسية التقليدية أو عبر أذرع المخابرات الخارجية المتنوعة. وهذا التتبع سهل نسبيا، نظرا لأن عمر سياسة خارجية جزائرية مستقلة، ومخطط لها من عاصمة البلاد هو 61 سنة فقط، وهو عمر قصير ييسر إمكانية الإمساك بالخيط الناظم Le Fil Conducteur  للسياسة الخارجية الجزائرية، التي تميزت منذ الاستقلال، ومهما كانت شخصية رئيس الدولة، بكثرة المواقف المتخذة كردود أفعال قياسا بالمواقف التي تحمل نوعا من الفعل المبادر.

إن معظم الحالات المحدودة العدد ذات طابع المبادرة جرت في سبعينيات القرن الماضي في عهد الرئيس هواري بومدين، الذي وجد أن من الممكن توظيف السياسة الخارجية لدغدغة عواطف الرأي العام الداخلي بشكل يساعده في توطيد سلطته داخليا بعد نجاح انقلابه ضد الرئيس احمد بن بلة، وبعد تصفية كل معارضيه من قادة الثورة الأوائل، فضلا عن تأمين دعم خارجي يستطيع أن يقي نظامه من أي ردود فعل انتقامية غربية و خاصة فرنسية إثر إقدامه على تأميم النفط والغاز سنة 1972.

لهذا، وعكس التوجهات السائدة آنذاك بين السياسات الخارجية لبعض الدول العربية والإفريقية اتجه نظام الرئيس بومدين نحو القيام بتحركات دبلوماسية أكثر شمولية تتجاوز محيط الجزائر العربي والإفريقي، وبمضامين  وشعارات جذابة كالسلام والتنمية والعدالة، مستفيدا مما تبقى من إعجاب عالمي آنذاك بثورة التحرير الجزائرية، التي حرص على إبقاء جذوتها متقدة لضمان استمرار التعاطف معها.

في هذا السياق يمكن أن تدرج استضافته للقمة الرابعة لمؤتمر دول عدم الانحياز في سبتمبر 1973 التي خولته الحديث من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة عن ضرورة إصلاح قواعد النظام الاقتصادي العالمي، كما ساعدته في استضافة أول مؤتمر لقادة الدول المنتجة للبترول (أوبك) في مارس 1975.

وعلى هامش مؤتمر الأوبك هذا، وتوظيفا لاستضافته باشرت الجزائر جهود وساطة بين العراق وإيران نجحت في إبرام اتفاق يرسم الحدود بين البلدين في شط العرب، وهو الاتفاق الذي لم يصمد طويلا، إذ سقط بمجرد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية سنة 1980، تلك الحرب التي حاول نظام الرئيس الشاذلي بن جديد التوسط فيها، وانتهت وساطته بوفاة وزير خارجيته محمد الصديق بن يحي في حادث سقوط طائرته سنة 1982 رغم نجاحه من قبل في مطلع سنة 1981 في تأمين إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين الذين احتجزوا في إيران بعد الثورة.

وبهذا الحادث المأساوي الذي حصل للسيد محمد الصديق بن يحي، ونتيجة تدهور أسعار مواد الطاقة في مطلع الثمانينات، التي تقلصت معها إمكانيات القيام بتحركات دبلوماسية فعالة وذات وقع إعلامي كبير، وبعد أن تمكن الرئيس بن جديد من بسط سلطاته وهو الشخصية الواقعية المناقضة لطوباوية سلفه اكتشفت الجزائر أن فاتورة لعب أدوار دبلوماسية عالمية باهظة، وأكبر من إمكانياتها المادية والبشرية، خاصة وأن مفعول قوتها الناعمة الوحيدة الممثلة في بريق ثورة التحرير قد اضمحل كثيرا.
ومن الطبيعي أمام هذه الحقيقة أن تستدير الجزائر نحو محيطها الإقليمي، الذي مارست في جزئه المغاربي باعتباره مجالا حيويا لها سياسة خارجية بنفس توسعي طامع في القيادة والهيمنة، ولكن في شكل ردود أفعال مشوشة أو متوعدة، بدلا من أن يتخذ طابع مبادرات بناءة ووحدوية.

لقد تجسد أول إرهاص لردود الأفعال المتوعدة في التهديدات التي وجهتها الجزائر لتونس عقب الإعلان عن الشروع في الوحدة مع ليبيا سنة 1974، ثم بشكل صارخ في دعم الانقلاب في موريتانيا على نظام الرئيس المختار ولد دادة أملا منها في أن يتخلى الانقلابيون لصنيعتها البوليزاريو عن الجزء الذي أخذته موريتانيا بموجب تقسيم أقاليم الصحراء، وهو الأمل الذي أحبطه المغرب باسترجاع إقليم وادي الذهب في 14 غشت 1979.

 

أما ردود الأفعال المشوشة، فقد مارست الجزائر معظمها في مواجهة المغرب ساعية بشتى الوسائل الدبلوماسية والإعلامية، ودعم الجماعات الإرهابية إلى عرقلة جهود استكمال وحدته الترابية، وتأمين امتداده الجغرافي مع عمقه الإفريقي، ومنعه من كسب المزيد من الاعترافات الدولية بمغربية الصحراء.

ويعود تعويل الجزائر بشكل كبير على ردود الأفعال المشوشة مع المغرب إلى ما خبرته مبكرا ومن خلال المواجهة العسكرية المباشرة في معركة أمغالا سنة 1976 عن استعداد وتصميم المغاربة للدفاع عن أراضيهم المسترجعة مهما كان الثمن، مستنتجة تبعا لذلك وجود مخاطر جمة وغير محسوبة العواقب إذا ما لوحت مجددا بأي تهديد أو وعيد باستخدام القوة، لاسيما وقد اتضح أن أي صراع مسلح مع المغرب حول الصحراء لا يحظى ولو بالحد الأدنى من الشعبية في وسط الرأي العام الجزائري، فضلا عما يمثله توازن القوة بين البلدين من ردع لأي مغامرة في هذا الاتجاه.

إن توازن القوة هذا، والخشية من مغبة الإخلال به هو أساس الاستقرار في العلاقات بين البلدين، الذي  رسخته من الجانب المغربي طمأنة الملك محمد السادس مجددا للجزائر قيادة وشعبا بأن المغرب لن يكون أبدا مصدر أي شر أو سوء لها، ومن الجانب الجزائري تأكيد الرئيس تبون في لقائه الإعلامي يوم 5 غشت 2023 بأن بلاده لن تستعمل القوة أبدا ضد جيرانها، إيمانا منها بأن إراقة الدماء إذا حصلت بين الجيران فلن تتوقف نهائيا.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة