النظام الجزائري: عداؤنا للمغرب عقيدة لكنه اليوم بشرعية جديدة

الرباط – لا يعتبر التوتر المتصاعد مؤخرا في العلاقات المغربية الجزائرية جديدا عليها، بل إنه القاعدة على مدى الستين سنة المنصرمة، فيما كانت فترات الانفراج النسبي القليلة، والمتمثلة في فتح مؤقت للحدود البرية المشتركة مجرد استثناء في علاقات يبدو أن الأيادي العابثة بها، والمستفيدة من استمرار توترها تريدها دوما فوق النار متأرجحة بين التأجيج تارة، وهامدة تحت الرماد تارة أخرى، بلا أمل في إطفائها.

وللتاريخ، ومنذ مغامرة أمغالا سنة 1976، التي أخطأ الجيش الجزائري التقدير فيها، وكلفته الكثير من هيبته توقف الحديث صراحة عن احتمالات مواجهة عسكرية مباشرة بين الطرفين، بل إن النظام الجزائري الذي حشر أنفه عنوة في معاكسة استرجاع المغرب لأقاليمه الجنوبية حرص على الادعاء دوما بأنه ليس طرفا في النزاع المفتعل، مركزا تورطه في تأمين دعم عسكري لمرتزقة البوليزاريو محسوب من الناحية الكمية والنوعية بشكل لا يستفز رد فعل قوي من الجانب المغربي مقابل دعم مالي ودبلوماسي غير محدود.

وسيتعزز تأكيد هذا المعطى التاريخي بإسراع الجزائر إلى قبول قرار مجلس الأمن الدولي رقم 690 الصادر في 29 أبريل 1991 بشأن وقف إطلاق النار وتشكيل بعثة الأمم المتحدة لمراقبته وتنظيم الاستفتاء (المينورسو)، وهو القبول الذي سعت الجزائر إلى ترويجه للادعاء بأنها غير معنية أصلا بهذا المشكل، ولا تتشبث سوى بالاستفتاء كآلية لتطبيق حق تقرير المصير في المنطقة، متجاهلة تماما أن لهذا الحق أوجه عديدة للتطبيق.

ولهذا يلاحظ بأنه حتى أثناء الحرب الأهلية التي دخلتها الجزائر في تسعينات القرن الماضي لم يحاول النظام حرف أنظار الشعب الجزائري عن ويلات العشرية السوداء التي قادها جنرالات الجيش ضد نتائج صناديق الاقتراع بافتعال مواجهة عسكرية مباشرة ولو محدودة في الزمان والمكان مع المغرب، مكتفية بمواصلة معاكسة خطواته لاستكمال وحدته الترابية على كافة الأصعدة الدبلوماسية، وبمهاجمته إعلاميا من خلال أي وسيلة أو مؤسسة مؤثرة تمكنت الدبلوماسية الجزائرية من تجنيدها في أي مكان في العالم

ولم يتوقف هذا السلوك العدائي ضد المغرب عند هذا الحد، بل ارتفعت وتيرته قليلا سنة 1994، إذ وجد النظام الجزائري فيما حصل بعد هجوم إرهابي تعرض له أحد فنادق مدينة مراكش الفرصة لعرقلة الخطوات التقاربية بين شعبي البلدين، وذلك بعدم الاكتفاء بالرد على قرار المغرب فرض التأشيرة على الرعايا الجزائريين بقرار مماثل، وإنما انتهزت المناسبة لإعادة إغلاق الحدود البرية بين البلدين بصفة نهائية في تراجع فظ عن أجواء التفاؤل التي عمت المنطقة بعد إنشاء اتحاد دول المغرب العربي سنة 1989.

ورغم بدء الخروج تدريجيا من أتون الحرب الأهلية بعد وصول الرئيس بوتفليقة إلى السلطة سنة 1999، وشروعه في معالجة الجراح الغائرة للحقبة الدامية بما أسماه سياسة “الوئام المدني”، إلا أن النظام الجزائري ظل وفيا للتوجه المعادي للمغرب بالاعتماد على التشويش الدبلوماسي والإعلامي، الذي احتدت نبرته غداة تقديم المغرب لمبادرة الحكم الذاتي لأقاليمه الصحراوية سنة 2007، وخاصة بعد أن لقيت هذه المبادرة ترحيبا من المجتمع الدولي عكسته كل قرارات مجلس الأمن الدولي بالتأكيد على أنها مبادرة جدية وذات مصداقية.

وخلافا لتزايد وتيرة التشويش الدبلوماسي والإعلامي فقد ظل التورط العسكري الجزائري في هذا النزاع المفتعل محسوبا وحذرا،  مرتكزا على تزويد مرتزقة البوليزاريو بأسلحة لا يمكنها إحداث نقلة نوعية في مجريات النزاع، خشية وقوع انفجار شامل. وقد استمر هذا الوضع إلى غاية سقوط  الرئيس بوتفليقة إثر اندلاع حراك شعبي سلمي واسع ضد منحه عهدة خامسة.

لقد رأى النظام الجزائري، الذي تشكل المؤسسة العسكرية المرجعية الوحيدة لشرعيته ومشروعيته، وركيزته الرئيسية، أن هذا الحراك الجديد مغاير لما سبقه من حراكات جماهيرية عرفتها الجزائر من قبل. فالربيع الأمازيغي سنة 1980 كان محصورا في منطقة القبائل وبمطالب ثقافية ولغوية، فيما انتفاضة أكتوبر 1988 جرى احتواؤها بتوسيع جزئي لهامش بعض الحريات، وبإقرار تعددية سياسية تم إجهاضها وتحويلها بسرعة إلى واجهة صورية للنظام، فور اكتساح الجبهة الإسلامية للإنقاذ للانتخابات التشريعية سنة 1991، التي تقرر إلغاء نتائجها ولو بثمن زج البلاد في حرب أهلية لا يعرف لحد الآن عدد ضحاياها، ولا مصير المفقودين خلالها.

وبما أن هذا الحراك جاء في سياق موجة ثانية من هبات الربيع العربي، فإن النظام الجزائري اعتبره خطرا وجوديا عليه، نظرا لطابعه السلمي، ولاتساع حاضنته الشعبية إلى كافة شرائح المجتمع، وتمددها في كل الولايات، ولاستمرار زخمه لمدة زمنية طويلة وتواصله بشكل محدود لحد الآن، فضلا عن حدة الشعارات التي رفعت خلاله، والتي وصلت لأول مرة إلى المطالبة بأن يكون للدولة جيشها لا أن يكون للجيش دولته كما هو الوضع في البلاد  منذ الاستقلال.

وبديهي أن خطورة بهذا الحجم تتطلب تعاملا في مستواها، وفي كل الاتجاهات الممكنة، التي ركز سدنة النظام والمستفيدون من استمرار بنيته على اثنين منها جرى العمل فيهما بشكل متوازي:

*يتمثل الاتجاه الأول في اتخاذ خطوات محلية لاحتواء الحراك داخليا، وهو ما تم باتخاذ مجموعة إجراءات ذات طبيعة اجتماعية لإحداث تحسين نسبي، وأغلبه رمزي في ظروف معيشة بعض شرائح المجتمع؛ ثم بإقالة الرئيس بوتفليقة، وتنظيم انتخابات رئاسية جرى ترتيبها وانتقاء المتنافسين فيها تفاديا لأي مفاجأة، بغية إيصال رئيس جديد على مقاس النظام، لكي تسهل قيادته.

*ونتيجة لعدم كفاية خطوات الاتجاه الأول ارتأى سدنة النظام ضرورة رفدها بأخرى على الصعيد الخارجي من أجل تحويل أنظار الرأي العام نحو “عدو أجنبي”، وهذا هو منحى الاتجاه الثاني، الذي أثبت أن النظام الجزائري ما زال من نوعية الأنظمة التي لا تعرف كيف تواجه أزماتها الحقيقية دون مشجب عدو خارجي يوجد في مخيلتها فقط.

كان المنطق يفرض أن يجد النظام الجزائري في فرنسا وضخامة تركتها الاستعمارية عدوا مثاليا يمكن تعبئة الرأي العام المحلي ضده بسهولة، ولكن ذلك لم يحصل رغم عدم اعتذار باريس عن ماضيها الكولونيالي كما كان يطلب منها، واكتفت بخطوة إعادة جماجم ضحايا جزائريين تعود وفاتهم إلى القرن 19، وثبت فيما بعد أن عددا من تلك الجماجم تحوم حول حقيقة أصحابها علامات استفهام كبيرة. ويعود أمر صرف النظر عن فرنسا كعدو متوهم إلى أن النظام الجزائري فوجئ بحفاوة الاستقبال الشعبي الذي خصصته الجماهير الجزائرية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارته الأولى للبلاد سنة 2017، وكررته في الزيارة الثانية في غشت 2022.

وبالنظر إلى الموقع الجغرافي للبلاد، واستنادا على قراءات مشوهة لتاريخ علاقاتها بدول الجوار، فضلا عن الواقع الحالي لمعظم البلدان المحيطة بالجزائر اعتقد النظام الجزائري أنه وجد ضالته في المغرب كعدو يسهل شحن الرأي العام الداخلي ضده. فالحساسيات معه قديمة، وما تزال قائمة، ومن شأن نكإ جراح الماضي معه ولو بالتضليل أن تجد آذانا صاغية في أوساط عدد كبير من الجزائريين.

لم يتسن للنظام الجزائري في جبته الجديدة التي جسدها استلام الرئيس عبد المجيد تبون للسلطة في دجنبر 2019 الشروع في حملته المحمومة المقررة ضد المغرب بسبب تفشي جائحة كورونا وتركيز العالم عليها.  ولذلك ما إن بدأت الساحة الدولية تستعيد نشاطها حتى فاجأ الجميع بخطوة الإعلان عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب في 24 غشت 2021، متذرعا بما أسماه قيام الرباط بأعمال عدائية ضد الجزائر دون دليل إثبات واحد على صحة ادعائه.

فإذا كانت هذه الأعمال العدائية تكمن كما قال وزير الخارجية الجزائري في استئناف عمل مكاتب الاتصال بين المغرب وإسرائيل، فإن ذات المكاتب كانت قد فتحت سنة 1995 من طرف كل من المغرب وتونس أيضا، ولم تر الجزائر آنذاك فيها عملا عدائيا، بل إن الرئيس بوتفليقة وعلى هامش جنازة الملك الراحل الحسن الثاني أبدى تهافتا لافتا للقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها يهود باراك. والأدهى أن الجزائر في الوقت الراهن تلهث وراء ود عدد من العواصم العربية قامت بما هو أكبر من خطوة المغرب تجاه إسرائيل.

إن استشعار النظام الجزائري لسخافة مبرراته لم تمنعه من مواصلة هروبه إلى الأمام، وذلك بقطع الطريق على أي إمكانية عربية بالخصوص للوساطة بينه وبين المغرب، وبالعودة إلى هذيانه بمطالبة الرباط بالاعتذار دون أن يحدد عماذا تعتذر، فضلا عن الترويج لفكرة أن القطيعة الدبلوماسية كانت أهون الضررين، فبديلها كما يقول كان هو الحرب، حاصرا الخيارات في العلاقات مع المغرب بين السيء والأسوأ فقط.

والواقع أن هذا الحصر يعود إلى أن النظام الجزائري يعتبر العداء للمغرب عقيدة، وأساس مثالي في الوقت الراهن لبناء شرعية جديدة. وقد فضل الخيار السيء على الأسوإ لإدراكه وجود اعتبارات موضوعية عديدة تستطيع كبح أي مغامرة حربية من طرفه، أولها غياب هدف مشروع يؤمن له التفاف الشعب قاطبة حوله، وثانيها افتقاده لذرائع سياسية وقانونية تساعده في تسويق مغامرته، وآخرها وأهمها وجود توازن مستدام للقوة قادر أن يحول أحلامه إلى كوابيس.

 

 

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة