علاقات المغرب بإسرائيل وإعلام التضليل

لوحظ في الآونة الأخيرة قيام بعض الأبواق الإعلامية العربية بشن حملة تشهير ضد المغرب ممتطية صهوة اتفاقه مع إسرائيل لاستئناف الاتصالات الرسمية بينهما، وتبادل فتح مكاتب تؤمن تلك الاتصالات، غير آبهة بتأكيد الرباط المتواتر على احترام تعهداتها بشأن الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة، دون مزايدة على قيادته الشرعية، بل بالتنسيق الكامل معها.

وبغية تأمين القدر الأكبر من الضمانات لنجاح هذه الحملة المحمومة، فإن هذه الأبواق والجهات التي تحرضها استخدمت كل الإمكانيات اللوجيستية المتوفرة لديها، إذ لم تكتف بما تخطه في وسائل الإعلام المكتوبة، كما لم يشف غليلها ما تروجه في برامج تلفزيونية متعددة تبثها شاشات تآكل رصيد شعبيتها كثيرا، ولكنها وظفت أيضا كافة الصفحات المتاحة لها في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، فأكثرت الظهور على اليوتيوب، وضاعفت مستوى التدوين والتغريد.

ومن الطبيعي في حملة التشهير هذه، أن يرافق الاستخدام المكثف لكل المنصات الإعلامية الممكنة توظيف مكثف أيضا لأساليب التمويه، والقراءات المغلوطة والمجزأة للعديد من الحقائق التاريخية ذات الصلة بالأدوار المغربية الرائدة في سبيل إيجاد تسوية عادلة للقضية الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، وقرارات القمم العربية، التي احتضن المغرب أكثرها تأثيرا في مسار القضية التي تعهد المغاربة بوضعها في منزلة قضية وحدتهم الترابية، وما يزالون أوفياء لعهدهم.

فهذه الأبواق وبعضها من حملة الهوية الفلسطينية لا تجهل، وإنما تتجاهل عمدا مجموعة من الوقائع التاريخية الدالة على صدق ومصداقية الموقف المغربي وانحيازه المطلق للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وهي وقائع لا يمكن تحميلها حقائق أخرى معاكسة إلا من طرف من في قلوبهم مرض. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن أبرز هذه الوقائع طيلة العقود الستة الماضية ما يلي:

*كانت وثائق الأمم المتحدة وفي مقدمتها قراري مجلس الأمن الدولي 242 و338 تعتبر الفلسطينيين مجموعة لاجئين، وبفضل المغرب في قمة الرباط سنة 1974 اكتسبوا صفة شعب ذي حقوق سيادية على أرضه، وذلك عندما تم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني رغم الاعتراضات التي أبدتها وفود عربية مشرقية آنذاك.

*لولا الرباط لما تمت تعبئة العالمين العربي والإسلامي، والقوى العالمية المحبة للسلام للدفاع عن تعددية وتنوع الهوية الحضارية للقدس الشريف، وذلك عندما بادر المغرب إلى احتضان قمة إسلامية سنة 1969 ردا على إحراق المسجد الأقصى، قمة تمخض عنها أيضا إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي (منظمة التعاون الإسلامي حاليا)، والتي أوكلت للمغرب مسؤولية تنسيق الدفاع عن عروبة القدس الشريف بمنحه رئاسة لجنة القدس، التي لم تنازعه فيها وعلى مدى أزيد من 40 سنة أي دولة إسلامية أخرى، بما فيها الدول التي حاولت أنظمتها مرارا تخوين المغرب، والسطو على قضية القدس لاستغلالها في أوهامها التوسعية، وتأجيج النعرات المذهبية.

*طوال الصراع العربي الإسرائيلي الذي ساهمت القوات المسلحة الملكية المغربية في أطواره إبان حرب أكتوبر 1973 ظل المغرب من البلدان العربية والإسلامية القليلة التي لم تفكر يوما في الاتجار بالقضية الفلسطينية، وفي توظيفها لتحقيق مصالح آنية، كما لم يسع على الإطلاق إلى مصادرة القرار الفلسطيني أو التأثير فيه بأساليب ملتوية للاستئثار به واستخدامه كورقة للمساومة الدبلوماسية.

*رغم العديد من المحاولات البائسة لدمج اتفاق استئناف التواصل بين المغرب وإسرائيل في إطار اتفاقات أبراهام، فإن الرباط ظلت حريصة على تمييزه عن تلك الاتفاقات، مؤكدة على تفرده لأنه أنجز أولا على هدي قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2625 بتاريخ 24 اكتوبر 1970  الخاص بمبادئ القانون الدولي المتصلة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول، وثانيا تم توقيعه بالرباط وليس واشنطن، فضلا عن أنه ظل في مستوى مكاتب للتواصل ولم يصل بعد إلى تبادل تمثيليات دبلوماسية تخضع لأحكام اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية.

*ما يزال معظم اليهود الإسرائيليين المنحدرين من أصول مغربية يحفظون للمغرب حسن صنيعه مع أسلافهم طيلة القرون التي تلت الفرار من الاضطهاد عقب سقوط الأندلس، وبصفة خاصة توفير الحماية الأمنية لهم ولممتلكاتهم خلال سيطرة حكومة فيشي الموالية للنازية على السلطة في فرنسا. وقد نجح المغرب في توظيف هذا المعطى لنسف ادعاءات الاستعمار الأوروبي حول استحالة التعايش الإسلامي اليهودي التي كانت تروم زرع الشقاق بين الطرفين، وهي الادعاءات التي ركبتها الصهيونية المتطرفة مستغلة تهور عدد من الأنظمة العسكرية العربية لتسريع تهجير اليهود الشرقيين من بلدانهم الأصلية.

لهذا، فإن المراقب الموضوعي والمحايد لن تفوته ملاحظة سعي المغرب الدائم إلى توظيف تواصله مع اليهود المنحدرين منه أينما كانوا لنسف كل الأطروحات المروجة لحتمية العداء والتصادم في الشرق الأوسط، واستشراف إمكانية إيجاد أرضية لتسوية سياسية وحضارية في عموم المنطقة بعيدا عن أي مزايدة من قبيل ما يصدر عن أنظمة عربية وإقليمية تدعي الأهبة لمواجهة الدولة العبرية، فيما هي تبحث سرا عن وسيلة أو قناة للتواصل والتقارب معها إذا حصلت منها على ضمانات بعدم المطالبة بتعويضات لفائدة اليهود المنحدرين من بلدان تلك الأنظمة، والذين هجروا قسرا، وتمت مصادرة أملاكهم عنوة.

في ضوء ما سبق يتضح بأن حملة التشهير بالمغرب ليس لها أي مبرر موضوعي، وأن الإصرار على مواصلتها يدحض ادعاءات الأبواق المسخرة لها بأنها تتصرف من تلقاء نفسها، فيما هي تخفي دوافعها الحقيقية، وتطمس هوية الجهات التي حرضتها ودفعت المقابل لها سواء أكانت جهات مشايعة لقوى إقليمية معروفة بعنترياتها اللفظية فقط أو أخرى عربية استفحلت لدى أنظمتها عقدة الدونية الناجمة إما عن صغر حجم بلدانها أو حداثة نشأة كياناتها.

ولله في خلقه شؤون

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة