ما لا يستأصل بالسلطة أذبه في السلطة

لماذا سعى ماكرون إلى مخاطبة المسلمين “المقاطعين” عبر قناة الجزيرة القطرية والتي تبنت المقاطعة وليس عبر قناة العربية السعودية، او سكاي نيوز الاماراتية، واللتين حاولتا تقريب وجهة نظر ماكرون الى العالم الإسلامي بعيدا عما تبنته تركيا، وقطر؟.

الرد على هذا التساؤل بأن قناة الجزيرة هي الاعلى مشاهدة سيكون ردا ساذجا، فماكرون كان حديث الساعة، وأي إطلالة له من أي منبر كان سيخلق الحدث، لذلك لا يجب أن تقرأ خرجة ماكرون الاعلامية، ولا حتى إطلالة بنكيران بعدها على نفس القناة، خارج تقرير خاص Private report كتب من جنيف في ديسمبر 2017، رصدا لتحركات الاخوان المسلمين في أوروبا بعد خروجهم من مصر في 2013، واختيار جزء منهم رفع الحرج عن قطر، والرحيل طوعا.

جاء في مقدمة التقرير أنه اضافة الى لجوئهم الى مواطن اوروبية تقليدية مثل لندن، وجنيف، وأخرى غير معتادة مثل اسطنبول، فإن أغلبهم استوطن هذه المرة وبشكل خاص باريس، برلين، وبرشلونة، وان هذه الاخيرة عرفت تدفقا لأموال “الاخوان” في بنوكها، وأنهم باتوا يسيطرون من خلال التبرعات على عدد من المساجد في هذه المدن، وباتوا ينشطون بقوة في المجتمع المدني الاوروبي من خلال منظمات غالبا يختارون لها اسم “قرطبة”، وشعارات مثل”التسامح”، و”التعايش”، و”الحوار الاسلامي المسيحي”، وما الى ذلك، وبعد استعراض لتفاصيل مطولة لا داعي لذكرها الان، ختم التقرير بالقول إن:”الجماعة، تعيد تشكيل نفسها في أوروبا، بعد مطاردتها في عدد من دول المشرق، لتفرض نفسها على الأوروبيين ك”إسلام ناعم”، تستعمله أوروبا كورقة “وساطة” للحديث إلى مسلمي الغرب، ومسلمي الشرق، وحماية نفسها عن طريق الاسلام الناعم، اي “جماعة الاخوان المسلمين”، من “تطرف المسلمين”، وبذلك سيستعيد الاخوان في اوروبا قوتهم التي سلبت في بلدان المشرق، وسيجد حكام الشرق انفسهم مجبرين على التعامل معهم من جديد بعد أن جعلوا من أوروبا معقلهم”.

وبناء عليه، اختيار ماكرون لقناة الجزيرة القطرية حليفة تركيا، لم يكن اختيارا قائما على عدد المشاهدة، بقدر ما كان قائما على لجوء أوروبي للإسلام الناعم لمخاطبة “الإسلام المتطرف”، لذلك في حديثه قال : “هناك أناس يحرّفون الإسلام وباسم هذا الدين يدّعون الدفاع عنه”.

ماكرون كان يعرف أنه بلجوئه الى قناة الجزيرة لم يأت ليعتذر للمسلمين، بل بكل بساطة قام بتفعيل واحدة من الاوراق “الناعمة” لأوروبا، وأنه لجأ إلى معقل “الاسلام الناعم”، حتى “يحمي” فرنسا من الذين وصفهم ماكرون ب”محرفي الإسلام”، أي أنه لجأ ل”الجماعة”، حتى تقوم بدورها الذي فطنت له بريطانيا سابقا، وتحاول فرنسا العلمانية تجربته بعيدا عن “خدمات” الإسلام المغربي، والذي تحاول فرنسا تحجيمه، ومن هنا نقرأ خروج عبد الالاه بنكيران لمخاطبة العالم الاسلامي في يوم المولد النبوي، وبعد صمت سياسي طويل ليقول : “متأكد أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أخطأ، وخصوصا حينما تبنى كرئيس دولة، الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يجوز الإساءة إلى أي فرنسي”، ونقرأ أيضا خروجه بعد مقابلة قناة الجزيرة العربية مع ماكرون، ليقول على قناة الجزيرة مباشر : “أنا دعوت ماكرون أمس للاعتدال والاعتذار، ولما لم يفعل ذلك، فنحن نسير في اتجاه آخر، كان عليه أن يقدم اعتذارا، ولو ملطفا للمسلمين”.

ومن أجل قراءة متمعنة ل”خرجتي” بنكيران في “أزمة ماكرون”، علينا أن نعود الى ما كتبه جاكي خوجي محلل الشؤون العربية في مقاله على صحيفة معاريف الاسرائيلية والذي كان وراء إخراج ما عرف ب”أزمة الطائرة الاماراتية والسياح الاسرائيليين في المغرب” الى الإعلام، حيث قال:”المغرب والامارات لا يرتاحان للاسلام السياسي، كلاهما لهما نفس “القريب المزعج”، الفرق أن الأول يفضل إذابته بداء السلطة، والثاني يفضل استئصاله”.

وخرجة بنكيران هي نتيجة “الاستثناء المغربي” في التعامل مع الحركات الاسلامية، مع الإسلام السياسي، ومع “جماعة الإخوان”.

“لماذا علي ان استأصلهم في حين أملك القدرة على توظيفهم عند الحاجة؟!!!!”، هي الفلسفة التي عجزت الإمارات عن فهمها، واحتاجت وقتا طويلا لاستيعابها، وايجاد رد على مخاوفها : “لا يمكن ان نتقبل انه بعد مطاردتهم في مصر سوف يطلون علينا من بلد نعتبره شقيقا”.

تجاوب المغرب مع هذا القلق، وقام بتنحية بنكيران من رئاسة الحكومة، دون ان يقع في فخ تنحية الحزب وحله، كان المغرب يملك ما لا تملكه الامارات، حذرهم من “تجمع الاخوان” في اوروبا، وفي باريس واسبانيا بشكل خاص، اضافة الى “إمارة المؤمنين”، وهي المؤسسة التي سمحت في عهد الحسن الثاني بإعطاء الشرعية ل”إخوان المغرب”، وفضلت خروجهم على يد القصر، ومن جلباب “أمير المؤمنين”، وليس على يد بريطانيا ولا أي “صانع” اخر غير “الصانع المغربي”.

اعتبر انصار بنكيران تخلي الدولة عن بنكيران تحكما مخزنيا، كانوا يجهلون انه احيانا يجب اتخاذ قرارات مؤلمة لا تبدو نجاعتها الا بعد حين، وتجاهلوا انه في الوقت الذي كانت دول الجوار تسقط “الاخوان” من سدة الحكم، اتخذ القصر قرار الابقاء على حزب العدالة والتنمية في الحكومة، وتركهم يكملون مدة الحكومة، وليس كما يشاع ان القرار كان بعد 2013 سنة اسقاط مرسي، والتقاط أردوغان ل”رابعة”، وحتى حين حلت سنة 2016، اختار المغرب أوسط الحلول، فضل التخلي عن عبد الإلاه بنكيران، ولم يقامر رغم الضغوطات بالتخلي عن الحزب، وهو القرار الذي ستظهر حكمته رغم تذمر “إخوان بنكيران”، سنة 2017، السنة التي عرفت مقاطعة الامارات والسعودية والبحرين ومصر لقطر، وتفضيل المغرب الوسطية على التبعية خاصة انه كان يواجه الموجة الثانية من الربيع العربي والتي اندلعت تحت مسمى “حراك الريف”، وأكسبه قراره ذاك الكثير ليس أقله ابتعاد الالة الاعلامية القطرية عن “حراك الريف” ممثلة في تحييد شبكات الجزيرة وباقي قواها الاعلامية الناعمة المتفرقة بين لندن واسطنبول وغيرها.

في منتصف 2019، ستبدأ بشائر اتفاق إماراتي مغربي يدشن لمرحلة جديدة من العلاقات بعيدا عن الخلافات السابقة، تجعل المغرب يفهم ان زمن زايد الأب والحسن الثاني ولى، وان العلاقات الشخصية يجب مأسستها لتجنب “مزاجية” أبناء زايد في التعامل مع المغرب الدولة، وبدأت الامارات بدورها تتفهم أن المغرب ومنذ سقوط الخلافة الاموية فصل نفسه عن الشرق، وانه يملك حساسية شديدة تجاه كل من يحاول التدخل في شؤونه سواء من الشرق، أو الغرب، وأنه لا يعقل أن امارة المؤمنين التي حمت أهل الذمة من يهود المغرب والبلاد وقتها تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، وشراسة النازية، سوف يسلم مواطنيه المسلمين حتى لو كانوا ينتمون للاسلام السياسي، ويتعاطفون مع تنظيم عالمي يحلم بالخلافة.

لم يكن الاتفاق سهلا، وأخذ وقتا طويلا، وربما كانت أزمة الطائرة الاماراتية والتي أغضبت المغرب، هي القشة التي عجلت بتفهم الامارات لعقلية الدولة المغربية، وهو ما يدحض ذاك التفسير الساذج القائل بأن فتح الامارات لقنصليتها بالعيون هو نتيجة ضغط الامارات على المغرب، او انه ل”محاصرة” الجزائر وجعلها تطبع مع إسرائيل وهو تفسير يرقى من السذاجة الى الغباء، ويعجز عن فهم أن ما يفعله المغرب منذ بيان وزير الخارجية ناصر بوريطة، (الدبلوماسية المدنية)وبيان المجلس العلمي، (القوة الناعمة الدينية)، وخرجة بنكيران (الدين السياسي) أنه يظهر الاوراق التي يمكنه لعبها لصالح الآخر حين يقع هذا “الآخر” في أزمة، وأن اختيارات المغرب الدولة لا يجب ان يأخذها الحلفاء التقليديون انها تخل عنهم، وإنما اختيارات تتماشى مع فلسفة المغرب

“ما لا تستطيع اسئصاله من السلطة، أذبه في السلطة”

 

 

 

شامة درشول

مديرة MCA للتحليل والتخطيط الاستيراتيجي، باحثة في الإعلام القوة الناعمة والخدمات العسكرية غير المسلحة، خبيرة في الشؤون الإسرائيلية، محاضرة دولية في قضايا الإعلام، ضيفة على قنوات دولية لتحليل الخطاب الإعلامي والسياسي في المنطقة العربية.