عندما بادر المغرب سنة 1969 إثر إحراق المسجد الأقصى في القدس الشريف إلى الدعوة لانعقاد قمة إسلامية شاملة هي الأولى من نوعها آنذاك ساد الاعتقاد بأن السلطة في الرباط وجدت فرصة سانحة لزيادة رصيدها من التعاطف الشعبي على الصعيد الداخلي، وحدثا طارئا من الممكن استخدامه دبلوماسيا وإعلاميا لوضع المغرب في دائرة الأضواء العالمية. ومنبع هذا الاعتقاد ما تم ترويجه حينها عن أن المبادرة المغربية مشكوك في نجاحها، وسيجري وأدها في مهدها، لأنها تريد أن تجمع على طاولة واحدة أقطابا إسلامية متناقضة المبادئ والتوجهات، ومتعارضة في السياسات وصلت العلاقات فيما بينها في بعض الحالات إلى التنابز وتبادل الاتهامات.
انطلاقا من هذه المعطيات سارع بعض المراقبين إلى استباق الأحداث والبدء في سرد ما يمكن أن يحصل من انعكاسات سلبية على المبادرة المغربية بسبب الخلافات الحادة في ذلك الوقت بين السعودية بقيادة الملك فيصل، وبين إيران بزعامة الشاه محمد رضا بهلوي المتأهب لممارسة دوره كدركي للغرب في منطقة الخليج، وتحقيق أطماعه في ضم بعض أجزائها، كما حصل مع احتلاله للجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، ومحاولته عرقلة استقلال البحرين بادعاء انتمائها إلى إمبراطوريته.
ولم يفت آخرين أمر تسليط الضوء على الموقف الأولي المتريث للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر من المبادرة عند إعلانها، معتبرين ذلك التريث كدليل على توجسه من أن تكون المبادرة، كما صورها بعضهم، خطوة للإجهاز على ما تبقى من كاريزمية القومية العربية بعد هزيمة الخامس من يونيو 1967، ناهيك عن التشكيك المسبق في موقف تركيا لأنها كانت تعتبر نفسها دولة علمانية التوجه، وكانت سباقة إلى الاعتراف بدولة إسرائيل مديرة ظهرها للشرق ومشاكله، باحثة عن رضا الغرب عله يقبلها جزءا من حظيرته.
ورغم ذلك رأت المبادرة النور، وجرى عقد القمة بحضور أولئك الأقطاب، الذين ساهموا في نجاحها، وإثبات أنها ليست خطوة ظرفية أو انتهازية، وإنما رؤية حكيمة بأبعاد مستقبلية تم تأكيدها ليس فقط بإدانة عملية إحراق المسجد الأقصى المبارك، وإنما بالإعلان عن إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي (التعاون الإسلامي حاليا)، التي لم يتردد المغرب في منح شرف استضافة مقرها للملكة العربية السعودية في مدينة جدة.
لقد مثل الإصرار على عقد تلك القمة، والعمل الدبلوماسي المكثف لضمان نجاحها، ووضع اللبنة الأولى للمؤسسات التي تؤمن استمرارية التئامها دليلا واضحا على الالتزام الأصيل والثابت والمبدئي للمغرب في الذود عن الدين الإسلامي الحنيف وطهارة مقدساته، ومناراته العلمية والفقهية والفكرية في الشرق والغرب على حد سواء، وبدون منة ولا انتظار مقابل.
إن هذا الالتزام لم يكن موقفا طارئا وليد تلك اللحظة الفارقة في مسار الصراع في الشرق الأوسط، ولكنه يستمد أصالته وحيويته من ارتباط عاطفي قديم متوارث للمغاربة بالمقدسات الإسلامية سجل التاريخ أبرز محطاته عند استقبال الخليفة الموحدي أبي يوسف يعقوب المنصور للأمير أسامة بن منقذ سفير السلطان صلاح الدين الأيوبي، وموافقته على تقديم المساعدة العسكرية المطلوبة لصد العدوان الصليبي على بيت المقدس.
لهذا لم يكن مفاجئا بعد قرار المؤتمر السادس لوزراء خارجية الدول الإسلامية سنة 1975 بإنشاء لجنة لمتابعة قضايا القدس الشريف أن يعهد المؤتمر العاشر لنفس الوزراء سنة 1979 برئاسة تلك اللجنة لملك المغرب بإجماع كل الحاضرين، وهو إجماع ما يزال قائما حتى الآن، ولا تستطيع الأنظمة المزايدة في موضوع القضية الفلسطينية والمتاجرة بها الخروج عنه أو الطعن فيه، وذلك إدراكا منها لأهمية أدوار المغرب في الحفاظ على عروبة القدس وصيانة المقدسات الإسلامية والمسيحية فيها بالأفعال وليس بالأقوال، بالإنجازات وليس بالشعارات من خلال وكالة بيت مال القدس الشريف.
وغني عن الذكر أن هذه الوكالة التي تأسست سنة 1998 بمبادرة مغربية أيضا تقوم رغم كل العراقيل وأحيانا شح الموارد بدور فعال في حماية الحقوق العربية بالقدس الشرقية وتعمل على تعزيز صمود أهلها، مستلهمة سماحة الدين الإسلامي الحنيف، ونبل قيمه الأخلاقية والإنسانية ومتجنبة أي توظيف سياسي أو اعتبارات طائفية أو عرقية، مركزة على إنجاز المشاريع حسب الأولويات التي يتم اعتمادها على أساس دراسات ميدانية تعدها جهات فلسطينية أكاديمية مشهود لها بالنزاهة وعدم الانتماء السياسي.
انطلاقا من هذه الروح التضامنية التي تجسدها وكالة بيت مال القدس الشريف في انفتاحها على قبول التبرعات أيا كان مصدرها لا غرابة أن نجد إدارة الوكالة نشطة في قطاعات متعددة كالصحة والتعليم والشؤون الاجتماعية، وبصفة خاصة في قطاع الإسكان، الذي يستحوذ على 50% من الموارد نظرا لأهميته القصوى في دعم بقاء المقدسيين في بيوتهم وتثبيتهم فيها، فضلا عن دوره في صيانة بنايات مؤسساتهم الإدارية أمام موجة التهجير والمصادرة وإغراءات البيع.
في هذا السياق، الذي يؤكد إدراك المغرب لسمو مكانة القدس في وجدان الشعوب العربية والإسلامية، وإيمانه بأن الدفاع عنها ليس موقفا ظرفيا يتخذ في المناسبات فقط، وإنما جهد ميداني يومي متواصل ينبغي التذكير بأن وكالة بيت مال القدس الشريف نجحت في إنجاز أكثر من 200 مشروع بكلفة مالية تجاوزت 65 مليون دولار معظمها من تبرعات مغربية عمومية وخاصة، بل وفردية أيضا.
وغير خاف على أحد أن هذه الجهود العملية الواجب على جميع المسلمين وقوى السلام الدولية دعمها مستوحاة من صرامة الموقف السياسي للمغرب إزاء القضية الفلسطينية بشكل عام ووضع القدس بشكل خاص. فهذا الموقف لا يكتفي بإدانة التدابير غير الشرعية المهددة للوضع القانوني للقدس، ولكنه يحرص على استعادة هويتها كمدينة للسلام، وملتقى للتسامح والوئام. وقد كان هذا هو الدافع الرئيسي إلى توقيع ملك المغرب مع قداسة بابا الفاتيكان سنة 2019 لما عرف ب”نداء القدس” الرامي إلى تكريس وضعها كأرض للقاء الحضارات، وموئل للتعايش السلمي بين أتباع الديانات التوحيدية الثلاث.
هذه الأدوار النبيلة للمغرب لا يمكن أن ينكرها سوى جاحد أو حاقد، وللأسف ما أكثرهم حتى بين صفوف أصحاب القضية.