ماكرون في الشرق الأوسط: فرصة سياسية من أجل السلام؟

بعد خمسة عشرة يوما من العمليات العسكرية التي اقدمت عليها الفصائل الفلسطينية ضد اسرائيل في سابقة خطيرة و فريدة من نوعها، و بعد زيارة عديد مسؤولين رفيعي المستوى لإسرائيل للتعبير عن تضامنهم و التأكيد عن وحدتهم المقدسة ضد ما سموه الإرهاب، تحركت الماكينة الدبلوماسية الفرنسية من خلال زيارة رئيس الدولة ايمانويل ماكرون حاليا لكل من اسرائيل والسلطة الفلسطينية والأردن ومصر. هذا التحرك يحتاج لتحليل دقيق لفهم مغزاه و حيثياته وما اذا كان تحركا نوعيا ينتظر منه تطور نوعي لتهدئة الأوضاع أم هي زيارة من باب تسجيل الوجود الجيوسياسي لفرنسا عموما و لماكرون خصوصا.

تجدر الاشارة الى أن هذه الزيارة وصفت من طرف الإعلام الفرنسي تارة بالمتأخرة، وطورا “بالشعبوية” باعتبار ان ماكرون يقول لكل طرف ما يريد أن يسمعه و لا يدافع عن موقف نسقي الهدف منه الوصول لحل سلمي وليس ارضاء هذا الطرف او ذاك.

لكن ما هو مؤكد موضوعيا مجموع معطيات نوجزها في بضع نقاط للتذكير:
تعتبر هذه الزيارة من الزيارات الأكثر تداولا اعلاميا، و ينتظر منها الكثير لاعتبارات متعددة. من حيث الرمزية، فايمانويل ماكرون هو الزائر الوحيد من هذا العيار للضفة الغربية. يحسب له ايضا انه زاد من قيمة المساعدات المادية لفلسطين.

يحسب لفرنسا ايضا انها من الدول الأكثر حضورا و منحا للأونروا. تستقبل أكبر جالية عربية في العالم على ترابها رغم الصعوبات الاقتصادية، كما تعيش فوق ترابها أكبر مجموعة يهودية في أوروبا. معطى ليس بالهين في تسييره. حسب ما يروج من أرقام واحصائيات فإن الأغلبية الساحقة من الشعب الفرنسي، ثمانية من اصل عشرة فرنسيين، خائفون من استيراد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى أرض فرنسا و بالتالي تهديد امنها و استقرارها.

تجدر الإشارة ايضا و انصافا لفرنسا، أنها تعتبر دولة موالية لفلسطين من وجهة نظر اسرائيل و محط انتقادات شديدة اللهجة من طرف اليهود عبر العالم ومنهم الفرنسيون. قد يبدو هذا الأمر مناقضا بما دأبت عليه آراء الموالين لفلسطين لكن هي حقيقة الأمر.

كما يعتبر الرئيس الفرنسي الوحيد الذي أكد عدم ارسال اي جندي فرنسي لغزة عكس الولايات المتحدة الأمريكية و دول أخرى. كما أعلن عن ارسال اسطول لمساعدة المستشفيات بغزة، الأمر الذي لم يقم به اي رئيس دولة آخر. بل وارسل معدات طبية لغزة عبر مصر. مهما كانت ظروف انتخابه فقد تمت إعادة انتخابه مرة أخرى و مهما كانت الانتقادات فشرعيته الدستورية لا غبار عليها.

لكن الأكيد أن فرنسا عبر ديبلوماسيتها لا تخرج عن نسق الموقف الثابت لدول الغرب العالمي. موقف مفاده، من جانب، الوحدة المقدسة لاقتلاع جذور الخط الأصولي ممثلا في حماس و حركة الجهاد الإسلامي في استمرارية للحرب الضروس المعلنة ضد التيارات الإرهابية منذ الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001.

في نظر الغرب العالمي، حماس و الجهاد و داعش أوجه لعملة واحدة اسمها الإرهاب و وجبت مواجهتهم في كل مكان و بكل الطرق ولو تطلب الأمر اغتصاب القوانين و الأعراف الدولية تماما مثل ما حدث بعد عدوان” القاعدة” على الولايات المتحدة سنة 2001، باعتبار أن الغاية تبرر الوسيلة والغاية هو اجتثاث الإرهاب من جذوره. من جانب آخر، يطرح الرئيس الفرنسي، ومعه اغلبيته الحكومية وممثلوه في المؤسسات الأوروبية، استراتيجية لاستتباب الأمن و تحقيق السلام بالمنطقة. وهو أمر محمود ومطلوب بل هو الحق الذي يجب أن يعلو ولا يعلى عليه. لقد طال الصراع واصبح مهددا للمنطقة بأسرها.

خطاب يريده الرئيس الفرنسي متوازنا، يدين الضربات الإرهابية مهما كان مصدرها وضحيتها. هو موقف غربي لا يمكن استيعابه الا باستمرار كونه يتحدث من زاوية الغرب العالمي.

يعتبر ماكرون أن الحل يجب أن يكون سياسيا. حل يمر ضرورة وشرطا بإقامة دولة فلسطينية كما صرح بذلك في حضرة محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية. ماكرون يقدم مقترحا دون الدخول في دقائق هذا الحل المطروح فوق طاولة المباحثات منذ بداية مسلسل المفاوضات بين رموز ” سلام الشجعان “، المغدور إسحاق رابين و المرحوم ياسر عرفات. موقف يبدو في سطحيته موقفا سليما وديبلوماسيا ذو جدوى، ولا يمكن إلا أن يرحب بها ككل الجهود السلمية مهما كان مصدرها. لكن المشككين يقولون بأنه لو كان الحل بهذه السهولة لما حدث ما حدث.

نفس المشككين و المعارضين لماكرون وخطواته ومواقفه، يدققون اكثر في أهلية الرئيس الفرنسي في إيجاد مخرج لهذه الورطة الدولية التي تهدد المنطقة بأسرها، بل العالم بدون مبالغة في حالة دخول طرف ثالث في النزاع لتتحول إلى حرب ضروس بالوكالة.

قرئ موقف الإدارة الفرنسية في بداية الأمر على أساس أنه منحاز كليا لاسرائيل خاصة وان الضربات تذكر بشكل درامي ما حدث ذات سبتمبر بالولايات المتحدة اثر الضربات الإرهابية لتنظيم القاعدة وأيضا الضربات الإرهابية التي زعزعت فرنسا سنة 2015، و ما بعدها. موقف تبرره أيضا معطيات الميدان باعتبار أن واحد وثلاثين فرنسي قتلوا في هذه الهجومات و أسر منهم من أسر و اخذوا رهائن. كما أن العلاقة بين فرنسا واسرائيل، كما نظيراتها من الغرب العالمي، علاقة وطيدة و قوية لأسباب تاريخية ليس مجالها في هذا المقال. وإن كان للشارع الفرنسي رأي آخر و تساؤلات محرجة من قبيل السؤال عن هوية القتلى و كيف يمكن اعتبارهم فرنسيون و هم مواطنون مزدوجي الهوية الوطنية، أغلبهم مستقر او على الأقل منضو تحت لواء الجيش الاسرائيلي في إطار الخدمة العسكرية.

إشارات تؤكد هشاشة الموقف الفرنسي داخليا خاصة وان المجتمع الفرنسي تغير ديموغرافيا بشكل كبير وقد اسلفنا ذكر هذا المعطى سابقا واي تحرك من الإدارة الفرنسية قد يثير زوابع فرنسا في غنى عنها. جزء لا يستهان به من الشارع الفرنسي غير مقتنع بعدل الموقف الفرنسي وصدقه بل و يتهم الإدارة الفرنسية الرسمية بالإنحياز التام للطرف الإسرائيلي في هذه القضية. وصلت درجة العنف بين الطرفين درجة لا تتصور تحت قبة البرلمان وفي المؤسسات الاعلامية بكل تلاوينها.

المشككون في صدقية الموقف الفرنسي ما بعد صدمة طوفان الأقصى، يبررون موقفهم باعتماد فرنسا سياسة قمعية لا دستورية ضد الأصوات المخالفة للموقف الرسمي. تجدر الإشارة إلى أن في فرنسا، كما العالم الغربي عموما، المقاربة الغالبة مقاربة ثنائية القطبية: تعاطف مع إسرائيل او مع الفلسطينيين ليس كما تقتضيه الحكمة اي اعتبار الصراع صراع خارجي والموقف يؤسس على قاعدة السلام.

الواقع أن الموقف أعقد من أن يكون بهذه البساطة. جزء مهم من الشارع الفرنسي، باستثناء بعض العازفين خارج السرب، يدافع عن موقف لا يجزئ القضية الفلسطينية ولا يتعامل معها مرحليا بل يقاربها في شموليتها و يستحضر موقعها في التاريخ والجغرافيا ولا يتعاطى مع أحداث معزولة في الزمان مهما كانت مدانة مبدئيا، وهي مدانة بدون لف ولا دوران خاصة وان الهدف ليس الانتصار لهذا الطرف او ذاك بل استتباب الأمن بالمنطقة و انصاف المدنيين العزل من الجانبين و اخيرا التأسيس لسلام عادل و مستدام في المنطقة.

ناهيكم عن الأزمات المركبة التي تعيشها فرنسا داخليا. هذه السنة كانت سنة سوداء بالنسبة للإدارة الفرنسية و لماكرون بالذات. الشارع الفرنسي لم يستسغ بعد اعتماد قانون 94,3 لتمرير إصلاحات جوهرية عارضتها شرائح واسعة من المجتمع وآخرها تمرير ميزانية 2024 بنفس الطريقة اللاديموقراطية من طرف رئيسة وزراء فرنسا، الذراع الأيمن لماكرون، اليزابيث بورن. و لا استساغ الشعب تقهقر فرنسا حضاريا. ليزيد وزير داخلية فرنسا الطين بلة حين اصدر قرار منع كل المظاهرات المتعاطفة مع الفلسطينيين وتم رفض قراره من طرف القضاء. وهو مساس بحق مقدس عند الشعب الفرنسي، شعب الثورة.

كما أن الإعلام الفرنسي أيضا أفصح عن موقف عام تنتفي فيه شروط الذكاء و الموضوعية وأحدث شرخا واسعا في المجتمع بتمرير خطاب جعل جزءا مهما من الشارع الفرنسي يظن بأن الإدارة الفرنسية منحازة و ا يمكن أن تكون حكما في هذا الصراع باعتبارها طرف منحاز للطرف الاسرائيلي.

يذكر المشككون بما حدث مع امانويل ماكرون في افريقيا و استعدائه لعدد لا يستهان به ممن كانوا يعتبرون حلفاء طبيعيون لفرنسا. كيف لماكرون أن يلعب دورا في الصراع و هو اصلا مستعد ضده اطرافا تعتبر مفتاحا بدونها لا يمكن أن تتطور الأوضاع.

شرعية ماكرون مهزوزة داخليا دون ادنى شك و هذا لاحظناه ميدانيا من خلال ردود أفعال الشعب الفرنسي في عديد محطات. يضيف المشككون في شرعية ماكرون انه يكفي ان نعرف بأنه أنتخب رئيس دولة فقط لأن الناخب الفرنسي يرفض وصول اليمين المتطرف للحكم للحكم عليه بانه غير ذي شرعسة ديموقراطية كاملة مكمولة.

هل يمكن لرئيس دولة شرعيته و مشروعيته تعاني من الهشاشة السياسية و لا يتوفر على أغلبية برلمانية في دولة ديموقراطية أن تكون له الشرعية و القوة اللازمتين لحمل مشروع تسوية قضية او نزاع دولي بحجم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

ينتظر من زيارة ماكرون الكثير. ينتظر منها الا تكون زيارة بروتوكولية لتدارك ما قد يوصف بكونه هفوة في التعاطي العاطفي تحت الصدمة مع حدث خطير بمستوى ما اقدمت عليه الفصائل الفلسطينية من هجومات ضد المدنيين حيث ظن الجميع انها ستغير مطلقا خارطة الشرق الأوسط. تنبأت عديد اصوات باجتياح بري لغزة من طرف اسرائيل لمسحها نهائيا من على الخارطة.

لكن واقع الأحداث يشير إلى أن لا شيء من هذا حدث الا سقوط آلاف الضحايا و ارتكاب جرائم قد تؤدي بالإدارة الإسرائيلية الحالية إلى المساءلة أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب. تكفي ضربة المستشفى و ارغام الغزاويين على الرحيل لتكوين ملف جرائم حرب ضد القيادات الاسرائيلية حسب عديد أصوات من الشارع و تحت قبة البرلمان.

الشيء الذي لا يختلف عليه هو ان المضمون المعلن عنه للزيارة الماكرونية للشرق الأوسط هو قلب ما يطالب به الشعب الفرنسي والعالم بأسره: سلام عادل ومستدام وانصاف وحل نهائي لصراع يتجاوز حدود الشرق الأوسط ليطرح اشكالات امنية لفرنسا ذاتها. اشكالات معقدة قد تؤدي إلى مل تحمد عقباه.

خلاصة القول ان ماكرون يبدو، حسب معارضيه، فاقدا لمقومات رجل الدبلوماسية القوي في بلاده و الوازن دوليا كما كان شأن جاك شيراك ودومينيك دوفيلبان في مواجهة تحالف الغرب العالمي لاجتياح العراق من وجهة نظر المعارضة المؤسساتية و الشعبية.

الواقع انه ينفرد بقرارات تخدم القضية الفلسطينية عكس عديد دول من الغرب العالمي. روسيا ذاتها اخيرا طالبت بقوة إطلاق سراح الرهائن المحجوزين لدى حماس و الجهاد.

نذكر بغضبة جاك شيراك في إسرائيل لما هدد بالعودة إلى فرنسا اذا لم تترك له حرية التحرك كما يشاء دون قيود من طرف السلطات الإسرائيلية. وقد حدث تقريبا نفس الحادث مع ايمانويل ماكرون سنة 2030 حتى أن ليلى شهيد شهدت له بالدفاع عن شرف فرنسا.

فاقد الشيء لا يعطيه لا تعني ان الرئيس الفرنسي مشلول تماما، لكن المشككين يقولون بأن كل ما سيربح من هذه الزيارة هو تسجيل حضور وفقط. و تبقى الولايات المتحدة سيدة الموقف في انتظار تحرك روسي ومعه حلفاؤه، أعضاء البريكس و قيادات القطب الشرقي الروسي يحاول مرحليا الاستفادة بأكبر قدر ممكن من هذا الصراع للتقدم على جبهة اوكرانيا لكن هذا بم يمنع بوتن بالمطالبة وبقوة بإطلاق سراح كل الرهائن.

و يبقى الأمل قائما اذا صدقت تحركات ماكرون في المنطقة و استوعب خصوصية الصراع و فهم حيثياته. وبداية البدايات الاعتراف بالدور الحاسم للقوى الإقليمية الوازنة في الشرق الأوسط من قبيل مصر والأردن على سبيل المثال لا الحصر. أهل الشرق ادرى بشعابه وهم الطرف الرئيسي والحاسم في هذا الصراع. كما أن المرحلة و التغيرات الجيوسياسية التي يعرفها العالم تستدعي تغيير باراديغمات التحليل و بداية تغيير هذه الباراديغمات التخلي عن النزعة الأبوية في التعاطي مع دول الشرق الوازنة والقريبة من الصراع.

لا حل بدون شراكة متساوية الأطراف لإيجاد سبيل ناجع و متفق عليه يراعي حق كل طرف من أطراف الصراع في العيش في سلام.

عبد الغني العيادي

كاتب، مترجم ومحلل سياسي، خبير في الشؤون الأوربية وقضايا المناخ، خريج مدرسة المترجمين الدوليين و جامعة مونس ببلجيكا، عمل ملحقا سياسيا في البرلمان الأوروبي، ضيف على قنوات دولية لتحليل الشأن الأوروبي ( بالعربية، الفرنسية والانجليزية).