أوروبا بين مطرقة حماس وسندان إسرائيل

كلما انفجر صراع يكون فيه المسلمون او العرب طرفا  إلا وانتشرت في الشارع العربي فكرة العداء التاريخي والصراع الابدي، صراع الوجود بين العرب والمسلمين. ليس بجديد أن يعتبر الغرب دار كفر ودار حرب. فالتراث والتاريخ ملؤهما ما يبرر الصراع اللا حضاري. فكرة تعبر الزمان والمكان، تطعم الشعبويات العربية مهما كانت المرجعيات. هذه الشعبويات تبني ذاتها من خلال زرع الحقد والكراهية، والاصطياد في الماء العكر.
نتيجة بنية التفكير هذه، والمختلة معرفيا، نابعة من سوء فهم بنيوي بين شرق  عربي اسلامي  ضره ما عاناه في القرون الخالية من موجات الاستعمار وانتقال القيادة الدولية من الدول والامبراطوريات ذات المرجعية الإسلامية أو الاثنية العربية إلى دول الغرب، اهل الأرض. لعل قلب المعادلة الجيوسياسية بشبه الجزيرة الإيبيرية ( الأندلس ) لمثال يؤكد هذه الخلاصة كما تؤكدها فترة انقلاب موازين القوى و استعمار دول من شمال افريقيا و الشرق الاوسط من قبل من كانوا سابقا مستعمرين منهم. اما الماضي القريب  فيظهر بما لا يدع مجالا للشك بان هذا التصادم قائم، و ان نتائجه وخيمة على أمن و استقرار وتنمية  الشعوب من خلال تنامي التيارات العنيفة التي تتبنى خط الإرهاب جنوبا وخط الإقصاء والعنصرية شمالا.
الحرب على كتائب القسام وسرايا القدس في غزة  غداة هجمات السابع من اكتوبر، تشعل مجددا نار الحقد و الإرهاب. حرب  تغذي في قلوب الشعوب و عقولها ذات القراءة السطحية فكرة العداء المطلق بين الشعبين. حرب مهما كانت أحكام المحللين القارئين لأسبابها ومبرراتها ومجرياتها تزيد الهوة عمقا بين ضقتي المتوسط، بين العرب و الشرق.
 التيارات المتطرفة تتغذى على هذه العدائية سواء كانت متواجدة في العرب او في الشمال. الحقد لا حدود له و الارهاب لا دين له. لكل طرف شعبويوه و متطرفوه من لا تقوم لهم قائمة في حالة السلم و الحوار و التعايش. بل تحتاج هذه التيارات لما يشرعن وجودها ويبرر تطرفها و يستديم وجودها. للكيان الصهيوني شعبويوه  والغرب له شعبويوه والعالم العربي و الاسلامي مؤسس بشكل كبير على الشعبويات كانت وطنجية، اسلامجية او قومجية.
مما يغذي هذا التطرف جنوب المتوسط، اي عند العرب ومن والاهم من الاثنيات ذات المعتقد الإسلامي، فكرة ان اوروبا و الغرب عموما أعداء حضاريون لا تعايش معهم ولا هدنة. لا حوار ولا تعاون. يهود ونصارى لن يرضوا على المسلمين حتى يتبعوا ملتهم. حاقدون ينتظرون الفرصة لإذلال المسلمين. آخر شعارات الشعبويات العربية ترديد مقولة تقول بان الغرب يكيل بمكيالين بخصوص ما يمس العرب والمسلمين. وكأن هم الغرب و سر وجوده يكمن في تخريب دار الإسلام ودار العرب والمسلمين.
حينما اشتد النقاش باوروبا حول موضوع الحجاب، قيل بالكيل بمكيالين و بازدواجية المعايير. حين تعلق الأمر باللاجئين السوريين الذين توافدوا على اوروبا بعد تخريب قيل يالكيل بمكيالين، وحين انفجرت الحرب على ساكنة غزة اشتد الحديث عن إزدواجية المعايير. محطات و مواضيع عديدة اول ما تثيره من ردود الفعل هو القول بازدواجية المعايير و الكيل بمكيالين، و كأن هم العرب و من والاهم هو فضح الغرب و فضح انعدام اخلاقياته و إظهار جانب العدائية الوجودية للغرب اكثر من جوانب الفعل  الحضاري الإيجابي الذي يؤسس لحوار الحضارات، شرط السلام و استقرار الشعوب و تنمية البلدان.
كمن يرى الكأس نصفه فارغ، يتردد في الدوائرالشعبية و النخبوية الشعبوية خطاب يزكي وجوده و يشرعنه بالقول بأن ” لن ترض عنك اليهود و لا النصارى حتى تتبع ملتهم” كما جاء في الآية 120 من سورة البقرة و كما يتداول انه ورد في الحديث ان الشجر و الحجر يحدث المسلمين و يقول لعبدالله  ان ورائي يهودي فاقتله. كذلك عند اليمين الغربي الشعبوي الذي يتقوى بترديد شعارات تفيد مثلا ان الجنس الآري هو الأسمى، و ان الإسلام يغذي الإرهاب مثلا بل و منهم من يؤمن بأن الإسلام دين ارهابي و بالتالي فكل مسلم هو مشروع إرهابي. و كذلك عند الصهيونية التي تؤمن بقدسية الأرض و الحق المقدس فيها. الشعبويون ملة واحدة مهما كانت مرجعياتهم.
لا فرق بين الشعوب و طبيعتها، كانت شعوب غربية او شرقية، شمالية او جنوبية. دم واحد يسري في عروق الناس في كل مكان من المعمور ، نفس النفسية ، نفس الآلام و الأحلام. ما يسري على نفسية الإنسان الشرقي يسري على طبيعة الإنسان الغربي. لا يستحوذ و يستفرد اي شعب بالأخلاق  و لا بسمو حضارة .  الغرب ليس كله شر و الشرق ليس كله اخلاق و سمو و رفعة حضارية.
 الأحداث العالمية التي شهدناها و عليها نحن شاهدون فقط منذ حرب العراق تفيد ان الشعوب كلها أينما كانت و مهما كانت المرجعيات العقدية و الثقافية فإنها مع السلام ضد الحروب ، مع العدل ضد الظلم، مع الرفاهية ضد  الفقر و مع الحوار و المساواة ضد الكراهية و الحقد و الانفعالية الحضارية. لا يمكن تجاهل مواقف الشعوب تجاه القضايا الكبرى التي تزعزع استقرارها و أمنها. لا تفوت الشعوب فرصة للتعبير عن تضامنها مع قضية عادلة و المشاركة في الأعمال الإنسانية بعيداً عن رأي الأقلية الشعبوية التي تخدمها حالة الصراع المستدام.
مظاهرات ضد الحرب تجوب  بالشوارع عواصم الغرب، مبيونيات كل نهاية أسبوع، و الطلاب ينتفضون ضد قرارات اوطانهم. الا يكفي هذا دليلا على فساد فكرة الشعبويات العربية التي تغذي فكرة الصدام و الكراهية و الحقد بين الشعوب. ملايين من المسلمين ، و من العرب يعيشون بين ضهران الغؤب، يسري عليهم ما يسري على شعوب الغرب من قوانين ، يستفيدون بشكل متساو ما يستفيد منه شعوب الغرب. تعايش يحكمها القانون و لا تتحكم فيه العواطف المتقلبة.
من المتعارف عليه سياسيا ان العدو الخارجي يخلق شرط الاجماع المزيف، الإجماع الضروري لاستدامة الاستبداد و الفشل. القوى الشعبوية  جيناتها الفشل. لتجاوز الفشل و ايهام الشعوب تحدد عدوا خارجيا يبقيها حية فاعلة. العدو الخارجي الذي يخفي عورة الشعبويات القاصرة في ايجاد حلول للازمات التي تعاني منها الشعوب و اوجه فشلها الإقتصادية و الاجتماعية و كل ما تعلق بالحقوق البدائية بلغة هرم ماسلو من صحة و تعليم و أمن.
 ما ينطبق على الشعبويات العربية، ينطبق على الغربية منها. تتحدث الكتابات المعتمدة في هذا الباب على ان الغرب الشعبوي يعاني من عقدة التفوق فيما يعاني الشرق من عقدة الدونية. التقاء العقدتان لا يمكن إلا ان يولد حالة من العدائية المستدامة كما هو الشأن اليوم في علاقة الشعوب العربية بالغرب. هذه العقد حقيقة يمكن تجاوزها باستيعاب منه الوجود الإنساني ، ذاك الذي لا يستوجب كثير عناء معرفي للتدليل على انه مؤسس على الوحدة الإنسانية في إطار التعددية الحضارية.
هذا حال الشعوب فما بال الدول و الحكومات؟ اذا كان لابد من دليل قاطع فالارقام تتحدث. حجم المساعدات في صراع غزة في ارتفاع . رغم العداء السياسي مع الحركات الإسلامية  ورغم الضغط الإسرائيلي، تستمر اوروبا و الدول الأوروبية في دعم الفلسطينين، مثلا، عبر وكالة الأونروا و عبر برامج التنمية المشتركة والدعم الغير مباشر للشعب و للسلطة الفلسطينية.
 المفوضية، و ضدا على تهم اسرائيل ضد الأونروا، تؤكد الاستمرار في صرف دعمها للوكالة و رفعه ليصل لما يزيد  169 مليون أورو. فرنسا تصرف فضلا على الدعم الاوروبي ما يناهز المائة مليون أورو و كذلك تفعل كل الدول، الولايات المتحدة ذاتها تصرف ما يزيد عن الخمس ملايير دولار كمساعدات إنسانية. تتحرك المفوضية الأوروبية ككيام جيوسياسي ، و تتحرك المول الأوروبية ، منذ بداية الحرب لوقف إطلاق النار، لتحريك ملف تسوية القضية على اساس حل الدولتين. إسبانيا و هولاندا و بلجيكا   و ايرلندا  تهرب عن استعدادها للإعتراف بالدولة الفلسطينية من جهة واحدة. تتحرك الديبلوماسيات الغربية لحماية الشعب الفلسطيني الأعزل ، كمثال فقط اما اذا عممنا البحث فميزانيات دعم التنمية المحلية و المساعدات للدول العربية الأخرى فهي تعد بالملايير ناهيك عن الحماية العسكرية لعديد بلدان.
نعم هناك صراع سياسي بين الدول ناتج عن تضارب المصالح و عن التناقض في وجهات النظر و في المصالح. أمر حضاري عادي و فطري عند الاسنان فما بالنا و الحال حال دول تجمع مآت الملايين من الناس الذين ينتظرون من حكامهم حماية مصالحهم لكن هذا لا يجب ان ينتج حقدا مطلقا تجاه غرب غير متجانس.
الحكمة تقضي بتوسيع جبهة الاصدقاء و التضييق على جبهة الأعداء و ليس العكس ، اي استعداء الشعوب و الحضارات. الحكمة تقضي التعاطي بعلمية مع أمر العلاقات الدوليه و ليس بخلفية عامة الناس. لا ينفع زرع و تغذية الحقد و الكراهية المؤدية للأعمال الإرهابية او تبرير الاعمال الإرهابية إلا العدو، عدو السلام و الاستقرار و رفاهية الشعوب مهما كانت مرجعيته. التعامل بعلمية يقتضي التفريق بين المواقف التي يعبر عنها الشارع بعفوية و بين منطق الدولة ، منطق الحكامة الذي لا يحتمل التذبذب و الشعبيوة بل الالتزام بلغة القانون و الشرعية و الديبلوماسية. الشعبويات غير غير ذات جدوى و لا تدخل ضمن دائرة ما يمكن تفسيره كشكل من اشكال المقاومة يفسر و و لا يبرر التجاوزات.
المنتظم الدولي هو المسؤول عن اي تقصير في اي قضية و ليس الغرب وحده.المنتظم الدولي غير الغرب، الغرب جزء من المنتظم الدولي لكنه ليس المنتظم الدولي. هذا المنتظم الدولي هو المطالب باصلاح نصوصه التأسيسية للخروج من المقاربة الإستعمارية التي تفسر غياب  المقاومة المسلحة كشكل من اشكال المقاومة من أجل الحق في تقرير المصير. من المنطقي العمل على اصلاح المنظومة الأممية بشكل سلمي بل و انتقاد الغرب و لو بقوة لكن اعتماد الشعبوية العدائية ضد الآخر الطهرانية مع الذات، أمر لا يخدم مصلحة الشعوب ، في غزة و في غير غزة، اليوم و غدا.
صراع الحضارات لا يعني بالضرورة صراعا دمويا بل تدافع و تنافس. صراع يفيد استقلالية الحضارات بعضها عن بعض و رفض للنمطية و  فرض نمط حضاري واحد. لا أحد يشك في ان الحضارة الغربية مختلف حولها و ينتقدها حتى من هم من داخل المنظومة الغربية. روسيا و كرواتيا و اوروبا الشرقية مثلا لا تشترك مع الغرب الامريكي في الاختيارات الثقافية و منها تنظيم الأسرة و البناء المجتمعي الى غير ذلك من اختلافات وجهات النظر بخصوص الاختيارات المجتمعية: النسوية ، حقوق الأقليات الجنسية ، حدود الحريات الفردية ، العلمانية … الاختلاف وارد بين الحضارات و هو الثابت في سيرورة الوجود الإنساني لكن  الكراهية المؤدية للإقصاء لا يمكن ان تكون الصفة الغالبة على هذه العلاقة التدافعية بين الحضارات. تعميم الأحكام شعبوية تخدم هذا النمط الإقصائي في التفكير  و الذي يعتمد الإرهاب و الدم لحسم الصراع و ما هو بحاسمه لصالحه مهما اجتهد في إسالة الدم. و التاريخ يشهد.
حين تقرأ لمثقفي الغرب الحقيقيين الأكاديميين الموضوعيين، و ما اكثرهم بل هم الأغلبية، و تشارك سياسييهم الفعل السياسي و المعرفي لا يمكن إلا أن تؤمن بان الخير انساني و الشر انساني و بين الخير و الشر تفاعلات تجعل اي حكم مطلق ثنائي القطبية  هو نتاج جهل او تجاهل شعبوي على اقل تقدير. بل في حالات هو من باب الكذب على الذات و استغلال الصراع او ايهام الناس بالصراع لقضاء حوائج لم تكن لتقض الا بالإصطياد في الماء العكر.حتى لأننا نكاد نقتنع و نحن نراجع التراث و التاريخ المتوارث بأن الفكر العربي و الدولة العربية، تجاوز رغم حقيقة تعدديتها الثقافية و اللغوية، ما أسسته إسرائيل من أساطير على نفسها.
الشعبويات ملة واحدة كما الارهاب لا دين لها و لا اثنية.

عبد الغني العيادي

كاتب، مترجم ومحلل سياسي، خبير في الشؤون الأوربية وقضايا المناخ، خريج مدرسة المترجمين الدوليين و جامعة مونس ببلجيكا، عمل ملحقا سياسيا في البرلمان الأوروبي، ضيف على قنوات دولية لتحليل الشأن الأوروبي ( بالعربية، الفرنسية والانجليزية).