الانتخابات الإسبانية: خطر الوافد الجديد

فعلها جاك شيراك، الرئيس الفرنسي السابق سنة 1997 و كانت النتيجة عكس ما كان يطمح إليه. حل البرلمان و أعلن على انتخابات تشريعية خسرها اليمين الفرنسي و وصل تحالف اليسار لرئاسة الحكومة بقيادة ليونيل جوسپان. نفس القيادي خسر بعدها الرئاسيات الفرنسية بل و أعطى لليمين المتطرف دور الأوتسايدر بوصول جون ماري لاپان للدور الثاني و البقية ما نزال نعيشها بعد كل انتخابات. خسر شيراك الحكومة والأغلبية البرلمانية و خسر جوسپان رهان الإنتخابات الرئاسية رغم الحصيلة الجد محترمة لقيادته للحكومة. لم تشفع لشيراك نيته الديموقراطية و لا شفعت لجوسپان حصيلة حكامته. فهل يا ترى، في المثال الإسباني، موضوع هذا المقال، سيتجدد هذا السيناريو أم ستخلق اسبانيا مفاجأة سياسية بدخول اليمين المتطرف الى الحكومة لأول مرة في تاريخه الحديث جدا؟

في ظروف مختلفة و تحت سقف سياسي مختلف تماما عن شبه الملكية الفرنسية، دعا پيدرو سانشيز، زعيم الحزب الإشتراكي الإسباني و رئيس الحكومة، الىحل البرلمان وعقد انتخابات تشريعية سابقة لأوانها. انتخابات لا يمكن التكهن بنتائجها إلا أنها قد تكون بداية عهد جديد بوافد جديد، اليمين المتطرف.

جاء قرار سانشيز هذا بعد سلسلة هزائم محلية للحزب الحاكم لصالح الحزب المعارض، الحزب الشعبي المحافض. قرار سياسي يبرز إلى أي مدى إسبانيا سائرة في التأسيس لديموقراطية حقيقية تختلف عن الأنظمة السياسية المرجعية بالإتحاد الأوروپي كالفرنسي الذي افتتحنا به مقالنا هذا.

هل كانت مغامرة من سانشيز وهو الذي حقق لإسبانيا أكبر معدل نمو بنسبة 5% في لحظات أوروببية و دولية عسيرة؟ هل ستشفع له نتائجه ويحتفظ اليسار بالأغلبية الساحقة إذا حدث توافق مرجعي بين الإشتراكي الإسباني و اليسار المتطرف سومار؟ هل سيؤدي ثمن الإختيارات الإجتماعية من قبيل قضايا الأقليات، و المثليين و كل القيم الإجتماعية التي خلخلها سانشيز تماشيا مع الخط العام في العالم بقيادة الليبرالية الديموقراطية. هل ستؤكد التشريعيات الإسبانية النهج العام الأوروپي بدخول اليمين المتطرف لخانة القيادة و الحكامة. لا يمكن تصور نجاح انتخابي باهر لزعيم اليمين الشعبي المحافظ ألبيرطو نونز فايخو دون تحالف مع حزب ڤوكس اليميني المتطرف. في المقابل و بنفس المنطق، لا يمكن للحزب الإشتراكي أن يحصل على أغلبية دون سومار، اليسار المتطرف خاصة بعد ضعف پوديموس، الظاهرة الشعبوية التي أعطت نفسا حقيقيا لكل متطرفي اليسار في العالم.

إسپانيا، جوهرة أروپا و المتوسط، بوابة جيوسياسية لا محيد عنها للضفتين أو القارتين و بالنظر للأرقام الإقتصادية قد نستطيع القول بأنها مستقبل الإتحاد الأوروپا. على أقل تقدير، مستقبل الإتحاد الأوروبي يمر من اسبانيا. بلاد تشتغل في صمت، تحقق نسبة نمو عظيمة مقارنة مع ألمانيا التي أعلنت عن نسبة عجز مهمة وفرنسا التي تواجه شعبها حخل الملفات الإجتماعية وإيطاليا التي تحاول أيضا شق طريقها نحو كرسي القيادة الأوروپية.

إسبانيا، تغامر بقرارات سيادية تتهرب منها دول أخرى: قانون الهجرة، إدماج المهاجرين، الأمن الداخلي، احترام الديموقراطية حتى لو كانت في غير صالح الحاكم… إسپانيا التي لا نسمع لها شهيقا ولا زفيرا دي الحرب المفروضة على أوروپا شرقا ضد روسيا. إسپانيا النظام السياسي الذي لو حكم عليه بمعايير علمية لاعتبر من أعقد و اكبر الأنظمة الديموقراطية. فليس كل الأنظمة قادرة علي تسيير وطن للجهات فيه استقلالية مهمة عن المركز. و مع كل هذا لا تسترعي اسبانيا الإهتمام الإعلامي والدليل انتخابات 2023 التي تقام اليوم بربوع اسبانيا، لم تجذب اهتماما بمستوى الإهتمام الذي تحضى به فرنسا مثلا. مع العلم أنها تقود الإتحاد الأروبي منذ الفاتح من يونيو الى نهاية دجنبر.

ربحت الديموقراطية و ربحت اسبانيا ثاني أهم معركة سياسية وجودية ما بعد الفرنكاوية: معركة الديموقراطية والتنمية. و هذه الإستحقاقات من أهم المحطات منذ اعتماد النظام الديموراطي في البلاد. أما الخاسر الأكبر في هذه الحملة فهي البيئة. الهموم البيئية لم تكن حاضرة بالشكل الذي يجب أن تكون عليه.

اسبانيا في مواجهة مباشرة مع التغيرات المناخية و آثار هذه التغيرات. قد نجد شرحا لهذا الغياب لكن لا شيء يبرر أن تستصغر الهموم البيئية و العالم كله قابض على جمر التغيرات المناخية و الإشكالات الطاقية. ما يشرح هذا التغييب هو كون اسبانيا ما تزال تبني مرحلة ما بعد الفرنكاوية و الهم البيئي غير حاضر إلا قليلا.

يؤكد الباحثين أن طقس شمال المتوسط بمن فيها اسبانيا سيكون مشابها لطقس شمال افريقيا بسبب هذة التغرات المناخية. ثم إن التغرات المناخية تؤثر على تنقل الأشخاص أي الهجرة و اسبانيا وجهة ضرورية وبداية رحلة نحو الإلدورادو الأروپي. وهذا في حد ذاته تحد يستغله اليمين المتطرف في كل بلاد أوروپا للتقرب أكثر من كراسي القيادة الوطنية الحكومية و الرئاسية. وقد فعلها في هذه الإنتخابات التشريعية الإسبانية إذ فتح الباب على مصراعيه للدخول في الحكومة. بعد أقل من عشر سنوات، يحقق حزب الڤوكس اليميني المتطرف نجاحا باهرا يعزز مكانة اليمين المتطرف في أوروپا.

كان اليوم أمام الشعب الإسباني تحد كبير وكان أمامه حلين اثنين لا ثالث لهما. وبما أن الدولة لا حق لها في الخطأ فالتحدي الأكبر هو إعطاء مفاتيح البلاد لمشرعيين و منفذين. مستقبل دولة يلعب في جو دولي واقليمي مكهرب و نوع من التجاهل الشعبي لهذه الحملة الإنتخابية. أما الحلان، فالحل الأول أن يضع مصالح البلاد في أيادي اليمين و اليمين يحتاج لأقصاه لتحقيق الأغلبية الساحقة. الحزب الشعبي الإسباني حكم ويعرف جيدا كيف تسير دولة، مثل الحزب الإشتراكي، أما المتطرفون و الشعبويون قد ينتصرون لاختيارات سياسية غير سليمة كان في اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف. بهذا الإختيار ستتأكد الموجة العامة العابرة لأروپا، موجة اليمين المتطرف في الحكم. أما الحل الثاني، فهو مباركة الحكومة السابقة باعطاء الأغلبية للحزب الإشتراكي الذي ألف وجرب التوافق مع اليسار المتطرف. له حصيلة مشرفة. سبق له ان حكم وله التجربة الكافية لقيادة البلاد في مرحلة مقلقة اقليميا ودوليا. يبدو أنه اختار درب التغيير المطلق لنهج الحكامة و للبرنامج السياسي. يشكو كثير الأسبان من المتطرفين يسارا.

تتأكد في هذه الإنتخابات الإسبانية خاصة أن إسبانيا دولة ديموقراطية كبيرة ولها آفاق واسعة. نتائج الإنتخابات تبين العديد من المواقف المستقبلية الممكنة من قضايا وطنية ودولية و على رأسها العلاقات مع المملكة المغربية على هامش الصراع على الصحراء الغربية، وملفي سبتة ومليلية. الملكيتان أهم في حل هذه الأزمات العابرة وسوء الفهم الممكن من أي أغلبية سياسية حكومية، وهذا بالضبط موقف زعيم الپپي رئيس الوزراء المقبل لاسبانيا.

ظل المغرب كان حاضرا في الانتخابات من خلال الملفات العالقة بين الطرفين. خلاصة الخلاصات، أكد النظام السياسي الإسباني بأنه ديموقراطي و قد نجح في التأسيس لملكية فدرالية ديموقراطية حقيقية. غياب الملفات والتحديات البيئية و قوة سياسية خضراء من هذه الإنتخابات التشريعية نقطة حاسمة في مستقبل اسبانيا.

لا يمكن لاسبانيا أن تتجاهل التغيرات المناخية وآثارها. معدل النمو مهم للإقتصاديين، أجل، لكن الضريبة البيئية يدفعها المواطن والأرض. مهما تكن الأغلبية، يبقى الشعب الإسباني متمسكا بوحدته العضوية في مقابل محاولات الإنفصال، وتبقى الأحزاب التقليدية أساس الدولة أما المتطرفون فهم على أكبر تقدير ظواهر زائلة.

و هنا اشكالية التحالف الممكن بين اليمين المتطرف واليمين التقليدي. الاشكالات البيئية مثلا من الملفات الاي تحسم على المستوى الأوروبي في حين اليمين المتطرف متموقف سلبيا من الاتحاد و يعتبر السيادة الوطنية اهم من الانتماء للإتحاد الاووربي. كيف سيتعامل حزب فوكس واليمين المتطرف الأوروبي مع اتحاد اوروبي هم اصلا يطالبون باسقاطه والخروج منه و العودة للعملة السابقة بدل الاورو.

أسابيع قليلة من الحملة لم تكن كافية لخوض معركة انتخابية حقيقية تعطينا كمهتمين اوللمصوتين العناصر الاساسية لفهم خارطة التحالفات وطبيعتها ونقاط التوافق و الاختلاف بين كل هذه المكونات السياسية .

سانشيز يدافع عن حصيلته، 5.5 % معدل نمو اسبانيا و نسبة التضخم تنخفض لأقل من 2 %. لكن حصيلته تتضمن تشريعات تمس نوعا ما بالهوية الوطنية و ثقافة الشعب. مثل قانون الأثانازي ( أي الحق في الموت)، مثل كذلك الحق في تغيير الجندر ( الجنس) … من العوامل التي لعبت دورا في نتيجة هدة الإنتخابات: المساس بالقيم المحافضة للشعب الإسباني و ليس الحصيلة.

هنا نتذكر تجربة ليونيل جوسپان بفرنسا. حصيلة مشرفة كوزير أول لكن المعركة حسمت ضده حول ملفات أخرى. ثم إنه من المعلوم لأهل السياسة أن الحملة الإنتخابية لا تؤسس على الحصيلة بل على البرنامج المستقبلي. هلى الوعود المستقبلية الممكنة وليس الشعبوية الغير ممكنة ماديا مثل مقترح الدخل القار الاجتماعي بقيمة عشرين ألف دولار سنويا للشباب بدءا من السن الثامنة عشرة كما جاء في برنامج اليسار المتطرف.
وهذا بالضبط ما حدث. لم تكف الحصيلة الحكومية لسانشيز لربح رهان هو من قرر أن يضع نفسه فيه بحله للبرلمان و العودة أمام الناخبين. عودة راهن فيها سانشيز على ما سبق وعلى اليسار المتطرف سومار.

اليسار الحكومي بأوروبا يتكون من ثلاث الى اربع مدارس متحالفة لكن متناحرة: الشيوعيون، الاشتراكيون، اليسار المتطرف والبيئيون اي الخضر.

في حالة اسبانيا لا توجد قوة خضراء بيئية تعزز تحالف اليسار. لهذا ستستمر الازمات السياسية التي تخلقها الانتخابات ما لم يتم الخروج من منطق الحزبين الكبيرين و اعتماد مقاربة تعددية تفتح أمام الفائز آفاق تحالفية. في حالة اسبانيا اليوم، لا يوجد أمام الطرفين الا المنتخبين الكاتالان الباسك للوصول للرقم السري اي عدد التواب الذي يسمح باغلبية مريحة.

كم يحتاج سانشيز في هذه الظرفية حزب أخضر بنسبة 8 % تضمن له ما تبقى لربح رهان الأغلبية الساحقة. كذلك بالنسبة لفيخو الذي سجد نفسه عن بعد أقل من عشرة نواب عم الأغلبية الساحقة إذا هو تحالف مع فوكس. الحزب الأخضر هو الغائب الكبير من هذه الإنتخابات و حضور قوة خضراء، كانت يمينية او يسارية، ستحسم الرهان. اليسار واليمين المتطرفين رغم النتائج المريحة غير قادرين على الوزن في هذه الانتخابات بتقديم ورقة تحالف رابحة.

فيخو، اذا تأكد فوزه في هذه الانتخابات التي عرفت مليونين و نصف تصويت عبر البريد لفرط الحرارة او بسبب العطلة الصيفية، سيكون قد ورث ملفات مهمة و ينتظره عمل فوري و شاق خاصة و أن اسبانيا كما اسلفنا تترأس أوروبا لستة أشهر و الحرب قائمة على أبواب أوروبا والأزمة الطاقية و آثار التغيرات المناخية… ملفات كبيرة و معقدة. لكنه ورث دولة بمعدل نمو من أعلى المعدلات اوروبيا.

ماذا سيكون مضمون الاتفاق بين الحزب اليمين الفائز و حزب اليمين المتطرف؟ يرث فيخو دولة ينتظر منها ان تعزز موقعها في الاتحاد الأوروبي، تحسن مستوى معيشتها حتى يتساوى على الأقل الحد الأدنى للأجور مع الجارة فرنسا. وورث دولة مطلوب منها ان تستغل موقعها الجيوسياسي و علاقاتها الملكية مع جنوب المتوسط لفتح صفحة شراكات بدل لغة الصدام. لبناء و فتح جسور جديدة لتقوية الإتحاد الأوربي باشراك منطقة مينا و القارة الأفريقية.

أسابيع قليلة من الحملة لم تكن كافية لخوض معركة انتخابية حقيقية تعطينا كمهتمين او مصوتين العناصر الاساسية لفهم خارطة التحالفات وطبيعتها و نقاط التوافق والاختلاف بين كل هذه المكونات السياسية، توضحت فيها الرؤيا بعد اعلان الأرقام. الخارطة السياسية الإسبانية أمام نفق مسدود إلا ما فتحه الكاتالان وبأي ثمن سياسي، و هم انفصاليون.
أزمة سياسية اسپانية من الطراز العالي تتشڭل. تجاوزها لن يكون إلا في صالح سانشيز.

عبد الغني العيادي

كاتب، مترجم ومحلل سياسي، خبير في الشؤون الأوربية وقضايا المناخ، خريج مدرسة المترجمين الدوليين و جامعة مونس ببلجيكا، عمل ملحقا سياسيا في البرلمان الأوروبي، ضيف على قنوات دولية لتحليل الشأن الأوروبي ( بالعربية، الفرنسية والانجليزية).