الطريق إلى الفاشية

نيويورك ــ أُطـلِـقَ على الاقتصاد وصف “الـعِـلم الكئيب”، وسوف يبرر العام 2023 هذا اللقب. نحن الآن تحت رحمة كارثتين خارجتين عن سيطرتنا ببساطة. الأولى هي جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، التي لا تزال تهددنا بـمتحورات جديدة أكثر فتكا، أو أشد عدوى، أو أكبر قدرة على مقاومة اللقاحات. الواقع أن الجائحة أديرت بقدر كبير من الرداءة من قِـبَـل الصين، ويرجع هذا في الأساس إلى فشلها في تلقيح مواطنيها بلقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال mRNA الأكثر فعالية (المصنوعة في الغرب).

تتمثل الكارثة الثانية في حرب العدوان التي تشنها روسيا في أوكرانيا. لا يُـظـهِـر هذا الصراع أي نهاية في الأفق، وقد يتصاعد أو يُـنـتِـج تأثيرات غير مباشرة أكبر. في أي من الحالتين، سيكون حدوث المزيد من الاضطرابات في أسعار الطاقة والغذاء أمرا شبه مؤكد. وكما لو أن هذه المشكلات ليست مزعجة بالقدر الكافي، فهناك أسباب وفيرة تدعو إلى القلق من أن تُـفـضي استجابة صناع السياسات إلى زيادة الأوضاع سوءا على سوء.

الأمر الأكثر أهمية أن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي قد يرفع أسعار الفائدة بدرجة أكبر مما ينبغي وبسرعة أكبر مما ينبغي. يعود السبب الرئيسي وراء التضخم اليوم إلى نقص المعروض، وبعض هذا النقص في طور التسوية بالفعل. وعلى هذا فإن رفع أسعار الفائدة قد يأتي بنتائج عكسية. فهو لن يُــنتِـج المزيد من الغذاء أو النفط، لكنه سيزيد من صعوبة حشد الاستثمارات التي من شأنها أن تساعد في التخفيف من نقص المعروض.

قد يؤدي إحكام الأوضاع المالية أيضا إلى تباطؤ عالمي. الواقع أن هذه النتيجة متوقعة بشدة، وكان بعض المعلقين يهللون فعليا للركود، بعد أن أقنعوا أنفسهم بأن مكافحة التضخم تستلزم تقبل الآلام الاقتصادية. وهم يزعمون أن الركود كلما كان أسرع وأعمق كلما كان أفضل. ويبدو أنههم لم يفكروا في أن العلاج قد يكون أسوأ من المرض.

الآن، بات من الممكن بالفعل استشعار الهزات العالمية المترتبة على إحكام سياسات بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ونحن ندخل فصل الشتاء. من الواضح أن الولايات المتحدة منخرطة في سياسة إفقار الجار ولكن على طريقة القرن الحادي والعشرين. برغم أن الدولار الأقوى يقلل من حدة التضخم في الولايات المتحدة، فإنه يفعل ذلك عن طريق إضعاف عملات أخرى وزيادة التضخم في أماكن أخرى. للتخفيف من تأثيرات أسعار الصرف هذه، تُـضـطر حتى البلدان حيث الاقتصاديات ضعيفة إلى رفع أسعار الفائدة، مما يزيد من ضعف اقتصاداتها. لقد تسببت أسعار الفائدة الأعلى، والعملات المنخفضة القيمة، والتباطؤ العالمي بالفعل في دفع  إلى حافة العجز عن سداد ديونها.

كما أن أسعار الفائدة والطاقة المرتفعة ستدفع العديد من الشركات إلى الإفلاس. وقد شهدنا بالفعل بعض الأمثلة الدراماتيكية، كما حدث مع شركة المرافق الألمانية يونيبر (Uniper) المؤممة الآن. وحتى لو لم تكن الشركات تسعى إلى الاحتماء بقوانين الإفلاس، فسوف تشعر كل من الشركات والأسر بالضغوط الناجمة عن الظروف المالية والائتمانية الأكثر إحكاما. ليس من المستغرب إذن أن تصبح العديد من البلدان والشركات والأسر مُـثـقَـلة بالديون بعد 14 عاما من أسعار الفائدة الشديدة الانخفاض.

تنطوي التغيرات الهائلة التي طرأت عل أسعار الفائدة وأسعار الصرف على مخاطر مستترة عديدة ــ كما اتضح من شبه انهيار صندوق معاشات التقاعد البريطاني في أواخر سبتمبر/أيلول وأوائل أكتوبر/تشرين الأول. يُـعَـد عدم التطابق بين آجال الاستحقاق وأسعار الصرف سِـمة مميزة للاقتصادات غير الخاضعة للقدر الكافي من التنظيم، وقد أصبح هذا التباين أكثر انتشارا مع نمو المشتقات المالية غير الشفافة.

سوف تكون هذه الآلام الاقتصادية بطبيعة الحال أشد تأثيرا على البلدان الأكثر ضعفا، مما يوفر أرضا أكثر خصوبة لزعماء الدهماء الشعبويين لغرس بذور الاستياء والسـخط. لقد تنفس العالَـم الصعداء عندما تمكن لويس إيناسيو لولا دا سيلفا من هزيمة جاير بولسونارو في الانتخابات الرئاسية في البرازيل. لكن لا ينبغي لنا أن ننسى أن بولسونارو حصل على ما يقرب من 50% من الأصوات ولا يزال يسيطر على المجلس الوطني في البرازيل.

على كل الأبعاد، بما في ذلك الاقتصاد، نجد أن التهديد الأعظم للرفاهة اليوم سياسي. يعيش أكثر من نصف سكان العالم في ظل أنظمة استبدادية. وحتى في الولايات المتحدة، تحول أحد الحزبين الرئيسيين إلى عبادة الشخصية والتي ترفض الديمقراطية على نحو متزايد وتستمر في الكذب بشأن نتائج انتخابات 2020. ويتلخص أسلوب عمله في مهاجمة الصحافة، والعلوم، ومؤسسات التعليم العالي، في حين يضخ أكبر قدر ممكن من المعلومات الخاطئة والمضللة في الثقافة العامة.

الهدف، كما يبدو، هو تقليص قدر كبير من التقدم الذي تحقق على مدار الأعوام المائتين والخمسين الأخيرة. لم يعد هناك مجال للتفاؤل الذي ساد عند نهاية الحرب الباردة، عندما كان بوسع فرانسيس فوكوياما أن يبشر بـ”نهاية التاريخ“، وهي العبارة التي كان يقصد بها اختفاء أي منافس جاد لنموذج الديمقراطية الليبرالي.

من المؤكد أن أجندة إيجابية لا تزال سارية ومن الممكن أن تَـسـتَـبِق الانزلاق إلى النزعة الارتدادية واليأس. لكن في العديد من البلدان، تسبب الاستقطاب السياسي والجمود في دفع مثل هذه الأجندة بعيدا عن المتناول. في ظل أنظمة سياسية عاملة على نحو أفضل،  بسرعة أكبر كثيرا لزيادة الإنتاج والعرض، والتخفيف من الضغوط التضخمية التي تواجهها اقتصاداتنا الآن. بعد نصف قرن من محاولات إقناع المزارعين بعدم إنتاج القدر الذي يمكنهم إنتاجه ــ كان بوسع كل من أوروبا والولايات المتحدة أن تطلب منهم إنتاج المزيد. كان بإمكان الولايات المتحدة أو توفر رعاية الأطفال ــ حتى يتسنى لعدد أكبر من النساء الالتحاق بقوة العمل، والتخفيف من النقص المزعوم من العمالة ــ وكان بمقدور أوروبا أن تتحرك بسرعة أكبر لإصلاح أسواق الطاقة لديها ومنع ارتفاع أسعار الكهرباء.

كان بوسع البلدان في مختلف أنحاء العالم أن تفرض ضرائب على الأرباح غير المتوقعة على النحو الذي كان ليعمل في واقع الأمر على تشجيع الاستثمار وضبط الأسعار، باستخدام العائدات لحماية الفئات المستضعفة وتنفيذ استثمارات عامة في مشروعات تحقق المرونة الاقتصادية. بصفتنا مجتمعا دوليا، كان بمقدورنا أن نتبنى  في إنتاج لقاحات وعلاجات كوفيد-19، وبالتالي نقلل من حجم الفصل العنصري في إنتاج وتوزيع اللقاحات وحالة السخط والاستياء التي يعمل على تغذيتها، فضلا عن تخفيف خطر ظهور طفرات جديدة خطيرة.

في النهاية، قد يقول أحد المتفائلين إن زجاجتنا ممتلئة بحوالي الـثـُـمـن. لقد أحرزت قِـلة من البلدان المنتقاة بعض التقدم على هذه الأجندة، ولهذا السبب ينبغي لنا أن نكون شاكرين. لكن بعد مرور ما يقرب من  ثمانين عاما منذ كتب فريدريش فون هايك “الطريق إلى العبودية“، لا نزال نعيش مع إرث السياسات المتطرفة التي دفع بها هو وميلتون فريدمان إلى التيار الرئيسي. لقد وضعتنا تلك الأفكار على مسار بالغ الخطورة حقا: الطريق إلى نسخة من العبودية تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين.


جوزيف ستيغلتز

حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد وأستاذ جامعي في جامعة كولومبيا كبير الاقتصاديين السابق للبنك الدولي (1997-2000) رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين التابع لرئيس الولايات المتحدة