الميليشيات المسلحة..سرطان في الجسد العربي

اكتفت القمة العربية الأخيرة التي احتضنتها مدينة جدة السعودية يوم 19 مايو 2023 بالإعلان عن رفضها التام لدعم وتشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة الرسمية، من دون اتخاذ مواقف أو إجراءات ضد هذه الجماعات والميليشيات أو ضد الجهات التي تدعمها، ولكنها مع ذلك وضعت الأصبع على جراح عميقة في الجسد العربي لم يجر من قبل أي تشخيص موضوعي ودقيق لخطورتها كخطوة أولية لوقف نزيفها المتواصل، والمتنقل بين العديد من مناطق العالم العربي منذ أزيد من خمسة عقود.

إن تصفح الواقع السياسي العربي واستعادة بعض وقائع تاريخه القريب يكشف أن مجموعة من هذه الميليشيات ليست حديثة النشأة، إذ تزامن تاريخ ميلاد عدد منها مع حصول بعض الدول على استقلالها، وذلك نتيجة معطيات متعددة فرضتها القوى الاستعمارية التي كانت تسيطر على تلك الدول لخدمة أهدافها وتأمين مصالحها بعد انسحابها، فيما نشأت تنظيماتأخرى بسبب تفاعلات داخلية لبلدان عربية أفضت إلى تآكل منسوب الثقة بين مختلف المكونات البشرية لشعوبها، بشكل أدى إلى انخفاض مستوى الإيمان بالمواطنة الجامعة لدى شرائح واسعة من تلك الشعوب لفائدة الانتماءات الدونية عرقية كانت أم دينية أو مذهبية.  

ولهذا، ورغم الادعاءات المتكررة من طرف هذه التنظيمات المسلحة، ومن القوى الدولية والإقليمية الداعمة لها بما فيها بعض الأنظمة العربية عن أنها ذات طبيعة وحدوية أو تحررية ونضالية، فإن حقيقتها على أرض الواقع تدحض ذلك، إذ ثبت أنها في آخر المطاف مجرد أشواك في خاصرة البلدان التي تنشط فيها، تختلف أهدافها وغاياتها باختلاف المخططات التي يصبو إليها مؤسسو هذه الميليشيات ومن يدعمونها أو من دخلوا فيما بعد على خط دعمها بغية توجيه قراراتها.

وإذا استثنينا التجربة القصيرة لجبهة تحرير ظفار التي تأسست سنة 1965، والتي فطن قادتها سريعا إلى مخططات الجهات التي بادرت إلى دعمهم للانفصال عن سلطنة عمان، فقاموا بحل الجبهة نفسها سنة 1968، مقابل الاندماج في دواليب السلطات العمانية، حيث تبوأ بعضهم أرفع مناصب المسؤولية، فإن جيش التحرير الشعبي السوداني وجناحه السياسي الحركة الشعبية لتحرير السودان يمثلان أبرز نموذج على الحركات المسلحة، التي رفعت شعارات وحدوية وديمقراطية بينما كانتتبيت نوايا انفصالية.

لقد ادعى جيش التحرير الشعبي السوداني في البداية أنه يريد إعادة صياغة طريقة حكم السودان عبر  تقليص قبضة السلطة المركزية في الخرطوم على شؤون البلاد، وبناء وحدة فدرالية تتمتع فيها مختلف الولايات بحكم ذاتي موسع، ولكنه سرعان ما كشف عن حقيقة غاياته عندما توفرت له مساندةأجنبية كبيرة ليعلن عزمه على الانفصال، وتأسيس دولة مستقلة في الجنوب، وهو ما تأتى له سنة 2009، مستغلا غباء سلطة عسكرية مستبدة أطبقت على أنفاس كل السودانيين، وليس الجنوبيين فقط.

وبشعارات أقوى وأشد وقعا من الشعارات الوحدوية استطاعت بعض الحركات المسلحة أن تخفي خلف شعارات التحرير وادعاءات المقاومة، وطرد الاحتلال أهدافها الحقيقية المتمثلة إما في تمزيق الوحدة الترابية لبعض الدول أو فرض الهيمنة والسيطرة على مقدرات البلدان التي نشأت فيهاومصادرة سيادتها وقرارها السياسي، ورهنه لخدمة أطماع توسعية لقوى إقليمية غير عربية.

يتمثل النموذج الأول في جبهة البوليزاريو المقيمة في مخيمات تندوف بالأراضي الجزائرية، التي ادعت عند انطلاقها أنها ستناضل من اجل تحرير جهتي الساقية الحمراء ووادي الذهب من الاستعمار الإسباني، ولكنها لم تحارب على أرض الواقع وما تزال سوى المغرب رغم أنه تمكن من تحرير تلك الجهاتمن المستعمر ليسقط بذلك القناع عن وجه البوليزاريو الحقيقي كحركة انفصالية ارتزاقية في خدمة أجندة نظام عسكري عربي يتوهم أنه يستطيع أن يكون قوة مهيمنة في المنطقة المغاربية.

ومن متابعة تطورات الساحة اليمنية في ضوء الحربالأهلية الدائرة هناك منذ أزيد من عشر سنوات، ونتيجة تعدد المتدخلين في هذه الحرب من قوى محلية وإقليمية وأجنبية يمكن الاستدلال على وجود إرهاصات نموذج مماثل للبوليزاريو بدأ يظهر في جنوب البلاد من خلال سعي ما يسمى بالمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من طرف قوى إقليمية عربية وغير عربية إلى احتكار شرعية الحراك الجنوبي وتاريخه النضالي ضد نظام علي عبد الله صالح، لتوظيفه في الوقوف ندا للسلطة اليمنية الشرعية بغية إثبات فشلها تمهيدا لتمرير خطابه الانفصالي الرامي إلى الانفصال واستعادة دولة اليمن الجنوبي التي كانت قائمة قبل إعلان الوحدة سنة 1990.

أما النموذج الثاني للحركات التي اختبأت وراء الشعارات التحررية لتغدو فيما بعد قوة مهيمنة في مجتمعاتها، فيتجسد في حزب الله اللبناني، الذي ادعت قيادته أن تأسيسه سنة 1982 هو لمواجهة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ولكن ثبت بطلان هذا الادعاء، إذ رغم تحقق الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية سنة 2000، فإن الحزب واصل تقوية جناحه العسكري بدلا من تفكيكه، ووضعه رهن إشارة الجيش اللبناني، ليستخدمه في تخويف بقية “الشعوب اللبنانية” على حد قول الكاتب سركيس نعوم، وابتزاز السلطات الرسمية في بيروت، التي غدا معظمها تحت رحمته، وبعضها يأتمر بإمرته.

ورغم أن السلطات العراقية سعت إلى احتواء ميليشيات الحشد الشعبي عبر إضفاء الطابع الرسمي عليها، وتحمل نفقاتها ورواتب أعضائها، إلا أن تذمر مكونات عراقية إثنية ودينية ومذهبية أخرى من سلوك هذه الميليشيات، وما بدر عنها من تصرفات مريبة تمس الوحدة الوطنية وأسس العيش المشترك في العراق أثبتت وما تزال أن الولاء الأسمى لهذه الميليشيات هو لولاية أجنبية أكثر منه للوطن.

لاشك إذن في أن النزيف الذي سببته نشأة هذه الحركات والميليشيات، وتطور وتعدد أشكالها والغايات منها، وتوجه عدد منها، وكذا بعض الأنظمة المشغلة لها نحو الاستعانة بمثيلات لهاعبر العالم مثل مجموعة فاغنر، وإلى حد ما مجموعة بلاك ووتر تعتبر من بين الأسباب الرئيسية لاستمرار استشراء مجموعة من الأمراض المزمنة في نسيج العلاقات العربية البينية، إذ ساهم هذا السرطان الذي ينخر الجسد العربي في استنزاف غير محدود لطاقات الشعوب، وفي تكريس وترسيخ العداوات بينها، ناهيك عما نتج عنها من تفكك لبعض الكيانات السياسية العربية، ومن إفلاس وتأزيم للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للعديد منها.

فهل يستوعب العرب أن مصالحهم المشتركة تكمن في التآزر لا في التناحر؟

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة