لماذا تروج روسيا نفسها في إفريقيا كقوة مناهضة للاستعمار؟

قد تكون جولة وزير الخارجية الروسية الأخيرة في إفريقيا مفاجئة، لكنها لم تكن غير متوقعة.

في رحلته الثانية خلال ثمانية أشهر، زار سيرجي لافروف كلا من إيسواتيني، وبوتسوانا، وأنغولا، وجنوب إفريقيا. وفي فبراير، يزور مالي وتونس وموريتانيا والجزائر والمغرب.

في جميع أنحاء القارة الإفريقية، من المرجح أن يروج هو وزملاؤه لوجهة النظر القائلة بأن “روسيا هي قوة مناهضة للاستعمار الامبريالي”، فتكون فرصتها لاستغلال الذاكرة الإيجابية عن دعم الاتحاد السوفييتي لمختلف حروب الاستقلال الإفريقية ضد المستعمرين الغربيين الاستغلاليين، فكثيرا ما استخدمت موسكو “دبلوماسية الذاكرة” في تعاملها مع إفريقيا، باستحضار ذكريات إيجابية من الماضي من أجل تعزيز نفوذها ومصالحها، لكن يبدو أن هذه التكتيكات تبدي عجزها أمام القوة الناعمة لأوكرانيا.

“روسيا هي من بين القوى العالمية القليلة التي لم يكن لديها مستعمرات في إفريقيا، أو في أي مكان آخر، كما أنها لم تشارك في تجارة الرقيق طوال تاريخها. لقد ساعدت روسيا، بكل الطرق الممكنة شعوب القارة الأفريقية على نيل حريتها وسيادتها “.

هذه هي الرسالة التي بعثت بها الخارجية الروسية من خلال بعثتها في جنوب إفريقيا عبر حساباتها على الشبكات الاجتماعية يوم 2 ديسمبر 2022 بمناسبة الاحتفال بإلغاء العبودية، وتعد البعثة الروسية في جنوب إفريقيا الأكثر صخبًا من بين بعثات الكرملين الدبلوماسية، وقد سارع مستخدمو تويتر في الرد على مزاعم الخارجية الروسية بالتذكير بأن الروس أخضعوا شعوبًا في آسيا وأوروبا الشرقية،

ما يلفت الانتباه في هذه الواقعة، هو السخرية التي تعرضت لها روسيا بمحاولة الترويج لنفسها أنها مناهضة للاستعمار في نفس الوقت الذي تشف فيه “حربًا إمبريالية” للغزو ضد جارتها أوكرانيا.

تغريدة وزارة الخارجية الروسية هاته ليست فقط تسعى إلى جذب الانتباه لإثارة ردود فعل من خلال الترويج لنفسها كحليف موثوق به وصديق للنخب الإفريقية، بل هي أيضًا جزء من تصور روسيا عن ذاتها، وهو ما يعني أن ما يجب التركيز عليه ليس الرواية الروسية التي تقدمها لإفريقيا، بل كيف ترى روسيا نفسها من خلال ما تروجه عن ذاتها في إفريقيا، علما أنه يجب التنبيه أن روسيا تستفيد من رغبة بعض الدول الأفريقية في تبني ادعاء روسيا بأنها دعمت الدول المستعمرة ضد الغرب الاستعماري، وسبب هذا التجاوب مع مزاعم روسيا هو أن ذاكرة هذه الدول مرتبطة بالتجربة المؤلمة مع الإمبريالية أكثر من حبها لروسيا. وبالتالي يجب توظيف الحرب الروسية على أوكرانيا في تقويض حجج روسيا، بل يمكن عبر التوجيه الصحيح أن أتستفيد أوكرانيا من هذا الشعور المناهض للإمبريالية.

في الواقع، يتردد العديد من الروس في اعتبار بلادهم إمبراطورية، بحجة أنه لا يمكن وصف الاتحاد السوفيتي وحتى الإمبراطورية الروسية بالإمبراطورية بنفس الطريقة التي كانت عليها بريطانيا أو فرنسا، لأنه في نظرهم أن الروس عاشوا جنبًا إلى جنب مع رعاياهم المستعمرين وتزاوجوا معهم.

تواصل روسيا في سرد الروايات عن نفسها  ك”مستعمر ذاتي”، بالقول: “تاريخ روسيا هو تاريخ دولة تستعمر نفسها”. ظهرت هذه العبارة  لأول مرة على يد المؤرخ سيرجي سولوفيوف في أربعينيات القرن التاسع عشر، ولقيت شعبية واسعة بفضل عمل فاسيلي كليوتشيفسكي المكون من خمسة مجلدات عن مسار التاريخ الروسي، نُشر بين عامي 1904 و 1921 وما زال المؤرخون يشيرون إليه بانتظام كمزجع حتى يومنا هذا.

هذه الاستثناءات الاستعمارية، أو رفض الاعتراف بالطبيعة الاستعمارية للهياكل السياسية لروسيا، لا تستند فقط إلى توالي الإمبراطوريات الروسية، بل على الادعاء الرسمي طويل الأمد بأن روسيا لم تغزو سيبيريا. وبدلاً من ذلك القول بأنها هي من دعت الإمبراطورية الروسية، واستقبلتها الشعوب التي تعيش هناك بالترحاب، وهي من اختارت الدخول في الاتحاد بحرية مع روسيا.

ليس هذا فقط، حتى كتب التاريخ والأفلام الوثائقية الروسية الشعبية تدعي أن الأقليات عوملت بشكل أفضل من الروس، حيث كانت روسيا “إمبراطورية مقلوبة” استغلت الأطراف المركز فيها.

هذا القطار الفكري الذي أشاعه الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين في التسعينيات غالبًا ما يستخدمه اليوم السياسيون، ووسائل الإعلام، والكتب، والمسلسلات التليفزيونية الموالية للكرملين لتشويه سمعة دول البلطيق عندما يناقشون استغلال بلادهم على يد السلطات السوفيتية.

حتى الحرب الروسية الحالية في أوكرانيا، و على الرغم من كل نفوذها الإمبريالي الاستعماري، تصورها وسائل الإعلام والسياسيون الروس على أنها “حرب تحرير”. ليس فقط لتحرير الأوكرانيين الناطقين بالروسية، ولكن أيضًا للتغلب على الهيمنة الغربية، وخاصة وهي تحت قيادة الولايات المتحدة.

لخص هذا الخط من التفكير أندريه بيزروكوف، الأستاذ في إحدى جامعات موسكو الرائدة، وضابط المخابرات السابق، في مقال في يونيو 2022 شرح فيه حرب روسيا على أوكرانيا: عملية خاصة (ضد الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى) من أجل الاستقلال، إنها مناهضة للاستعمار “.

يتماهى الروس مع المستعمَرين، ويرون الأوكرانيين على أنهم روس، ويصورون أنفسهم على أنهم مناهضون للإمبريالية، ويحاربون الهيمنة السياسية والثقافية والقيمية للولايات المتحدة والغرب.

الحكومة الروسية بارعة في استغلال التاريخ وإعادة التذكير بالدعم السوفييتي لعدد من النضالات الأفريقية من أجل الاستقلال، وذلك لتعزيز الحكومة الروسية لصورتها بين العديد من البلدان في القارة الإفريقية. لكن هذا أكثر من مجرد حنين إلى الماضي. يتعلق الأمر بكيفية تمكن الدبلوماسيين الروس من تأطير حربهم ضد أوكرانيا كرد دفاعي على العدوان الغربي. من وجهة النظر هذه، لا تسعى روسيا للهيمنة على أوكرانيا، ولكنها تسعى جاهدة من أجل التعددية القطبية، والوقوف في مواجهة الغرب ك”نسخة حديثة من النضالات ضد الإمبريالية التي خاضتها الدول الأفريقية”.

لقد بذل الكرملين بعض الوقت والطاقة والموارد في إقناع إفريقيا بهذه الرؤية، وحقق بعض النجاح.

استخدم السفراء والدبلوماسيون الروس الفعاليات، والمناسبات، والمؤتمرات، ووسائل الإعلام في عدد من البلدان من الجزائر إلى زيمبابوي للاحتفال، وإحياء ذكرى الدعم السوفياتي للحركات المناهضة للاستعمار.

خلال زيارته الأخيرة، قارن لافروف بشكل مباشر حرب روسيا من أجل “تحرير” أوكرانيا من النفوذ الغربي الخارجي بحرب الاستقلال الأنغولية. مثل هذه المقارنات هي جزء من مجموعة واسعة من الأنشطة الدبلوماسية الروسية التي تهدف إلى تعميق التحالفات والتأثير الثقافي، بدءا من افتتاح النصب التذكارية للجنود السوفييت الذين قاتلوا في الحرب الأهلية في أنغولا، إلى كتابة مقالات رأي لصحف زيمبابوية تعيد النظر في مهمة الاتحاد السوفيتي التحريرية.

أظهرت الاستراتيجية الروسية فاعليتها لأن الكثير من دول إفريقيا تحمل ذكريات إيجابية عن الدعم السوفييتي لحركات الاستقلال خلال الحرب الباردة، وتخرج عدد كبير من النخب الأفريقية من جامعات مثل جامعة صداقة الأمم الروسية ومقرها موسكو.

يمكن لأولئك غير القادرين على الدراسة في روسيا الانضمام إلى شبكة اجتماعية جديدة تركز على إفريقيا تسمى Russosphère (المجال الروسي)، والتي انطلقت في نفس الوقت تقريبًا مع الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022.

يضم الموقع عشرات الآلاف من المستخدمين الذين ينتقدون اللغة الفرنسية، ونبذ فرنسا باعتبارها مستعمرا في العصر الحديث، في نفس الوقت الذي يحتفون فيه ب”ميليشيات فاغنر”، التي تواجه اتهامات على نطاق واسع بارتكاب فظائع في جمهورية أفريقيا الوسطى وأماكن أخرى. وللمفارقة، كشف تحقيق عن أن الرجل الذي يقف وراء شبكة فاغنر، هو لوك ميشيل، من بلجيكا، أي بدوره من قوة استعمارية سابقة مثل فرنسا.

تُستخدم هذه المنصات، والزيارات، والأحداث أيضًا للطعن في انتقادات الغرب لروسيا. على سبيل المثال، خلال زيارته الأولى لجمهورية الكونغو، ولقائه بالرئيس دينيس ساسو نغيسو في صيف 2022، أمضى لافروف وقتًا في مناقشة كيف استعمر الغرب إفريقيا لمصلحته الخاصة.

يوظف المسؤولون الروس مثل هذه الروايات لبناء علاقات مع الدول الأفريقية، ويعدون بعلاقات ثنائية تقوم على الثقة والمساواة واحترام وحدة الأراضي.

على عكس الغرب، يصور لافروف روسيا كمدافع عن السيادة لن يتدخل أبدًا في الشؤون الداخلية. يتردد صدى هذا الخط من الجدل في بعض أجزاء القارة الأفريقية، وخاصة بين أولئك الذين عانوا بشكل فظيع ومؤخرًا من الاستعمار والعبودية على أيدي الغرب. ويظهر هذا جليا في تأكيد رئيس أوغندا أنه “كلما ظهرت قضايا ويريد بعض الناس منا اتخاذ مواقف ضد روسيا، نقول: “هؤلاء الأشخاص وقفوا معنا طوال المائة عام الماضية، كيف يمكن أن نقبل أن نكون ضدهم؟ ”

وبالمثل، استشهد حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم في جنوب إفريقيا بالدعم السوفيتي ضد نظام الفصل العنصري كعامل دافع في علاقاته الوثيقة مع موسكو. وبعد زيارة لافروف في يناير، ستشارك جنوب إفريقيا في التدريبات العسكرية التي تقودها روسيا والمقرر إجراؤها في الذكرى الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا.

لا أحد ينكر، أو تقريبا لا ينكر، أن الغرب استعمر إفريقيا وفشل في إجراء التعديلات المناسبة، أو أن الاتحاد السوفيتي دعم بالفعل عددًا من حركات التحرر الأفريقية في نضالها ضد القوى الاستعمارية والولايات المتحدة. المشكلة هي أن روسيا والاتحاد السوفيتي كانا يستعمران أماكن أخرى ليس لهما أي حق فيها، ولا أي أساس أخلاقي، وبالتالي يجب التنازل عن هذه الرواية لدول أخرى ليس لها تاريخ إمبراطوري، أي البلدان التي استعمرتها روسيا.

بعبارة أخرى، يجب أن يعني هذا أوكرانيا.

أوكرانيا لديها عدد من المصالح الدبلوماسية في أفريقيا، ليس أقلها الحفاظ على الضغط الدولي على روسيا للالتزام بصفقة الحبوب التي توسطت فيها تركيا والتي من المحتمل أن تعطل بشكل خطير الإمدادات الغذائية لأفريقيا. وتشمل المصالح الأخرى تصويت الأمم المتحدة وتوسيع الدعم الدولي، ولهذا السبب ركز الدبلوماسيون الأوكرانيون جهودهم حتى الآن على البلدان التي يرون أنها ذات أهمية استراتيجية في هذا الصدد، مثل كينيا، والسنغال، وغانا، وساحل العاج.

هناك دليل على أن بعض القادة الأفارقة ينظرون بالفعل إلى روسيا على أنها المعتدي الإمبريالي ويتعلقون بموقف أوكرانيا، كما يتضح من كلمات مارتن كيماني، الممثل الدائم لكينيا لدى الأمم المتحدة. وشرح سبب انضمام كينيا إلى 93 دولة أخرى في دعم قرار للأمم المتحدة يدعو روسيا إلى تعويض أوكرانيا، ورسم أوجه تشابه بين الإمبريالية الروسية والغربية قائلا: “هذا هو حق أوكرانيا [في الحصول على تعويضات] ولكن أيضًا على جميع الشعوب والدول السعي للحصول على تعويضات عن العنف الاستعماري، ونزع الملكية، والعبودية، وغيرها من أعمال العدوان من قبل الدول القوية، بما في ذلك أعضاء مجلس الأمن “.

وعلى الرغم من امتناع العديد من الدول الأفريقية عن التصويت أو غيابها، صوت عدد منها لصالح القرار، بما في ذلك الصومال وجيبوتي وغانا، وقد كانت هدفًا ل”دبلوماسية الذاكرة الروسية” خلال صيف عام 2019.

خلال زيارته في أكتوبر إلى السنغال وساحل العاج وغانا وكينيا، سعى وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا إلى تحدي السردية الروسية عبر مجموعة واسعة من القضايا، من تسليم الحبوب إلى الناتو.

لا تزال القارة الإفريقية ساحة معركة من أجل النفوذ.

 

 

جيد ماكغلين

مؤلف كتاب الحرب الروسية وزميل باحث في كينجز كوليدج لندن