في اليوم الذي خصصت فيه صحيفة ماريان الفرنسية ملفا كاملا لاتهام المغرب بأنه يخترق فرنسا بالكامل، ويزرع “جواسيسه” فيها، ظهر ملك المغرب إلى جوار رئيس الغابون مبتسما يلتقط صورا وهو يسلم هذا الأخير هبة ملكية عبارة عن ألفي طن من الأسمدة بغرض مساعدة الفلاحين الغابونيين على تجويد منتجاتهم الفلاحية.
هذا ما أظهرته الصورة، وتركت تساؤلات كبيرة لدى الرأي العام المغربي عن الرسالة التي يريد ملك المغرب إيصالها بعد اخر ظهور له في صورة جماعية التقطت بالقصر الملكي رفقة لاعبي المنتخب الوطني الذين استقبلهم العاهل الملكي مرفقين بأمهاتهم.
طبعا لا يمكن قراءة هذه الصورة إلا بربطها بالتشنج حد ما وصفته نخبة فرنسا ب”البرود القطبي” الذي لم يسبق أن بلغته العلاقات الفرنسية والمغربية، لكن هذه القراءة تظل ناقصة إن لم نربطها ب “حرب القوة الناعمة” في إفريقيا، بين روسيا، والولايات المتحدة، والتي خرجت منها فرنسا منهزمة شر هزيمة.
لكن، ما العلاقة بين القوة الناعمة بين ثلاث دول قوية هي روسيا، والولايات المتحدة، وفرنسا، وبين المغرب الذي لا يسجل أي نقاط بعد لصالحه في ميدان القوة الناعمة باستثناء ما حققه دون تخطيط مسبق في هذا الميدان المنتخب الوطني لكرة القدم؟
تساؤل مشروع، واستغراب مفهوم…
فعلا، المغرب ضعيف، وضعيف جدا على مستوى القوة الناعمة، إن لم نقل إنه اكتشفها حديثا، ولا يزال غير ملم جيد بمفهومها، ولا ما يلزمه من أجل التوفر على صناعة قوة ناعمة حقيقية، لكن إذا انتبهنا أن ملك المغرب، وثقله الديني، و في بعض الدول الإفريقية، سنفهم أن الملك محمد السادس هو نفسه “قوة ناعمة”، أو يكاد أن يكون إلى جانب ما حققه المنتخب الوطني في مونديال قطر، القوة الناعمة الوحيدة المكتملة الأركان والشروط.
هل كانت هذه القراءة ستختلف لو أن محمد السادس قدم لرئيس الغابون هبة ملكية غير الأسمدة؟
أكيد، كانت لتختلف، ذلك أن اختيار السماد بالذات كهبة من قبل “أمير المؤمنين” في بلد إفريقي، لرئيس دولة مسلم الديانة بدوره، له دلالته في قارة تصارع من أجل تحقيق “الأمن الغذائي”، وتعاني من استغلال مواردها من الأجنبي، ومن التطاحن الداخلي، وبدأت تطرح تساؤلات لم تطرحها من قبل مثل:”لماذا علينا الاستمرار في أن نكون الحديقة الخلفية التي تنقذ جوع فرنسا؟”.
نفس الأسئلة التي باتت تطرح في المغرب، والتي نقلها وزير خارجية المغرب ناصر بوريطة مرارا في عبارة “نرفض أن تكون أوروبا الأستاذ والمغرب التلميذ”، وكررها في اصطدامه مع فرنسا، كما كررها من قبل في اصطدامه مع إسبانيا، وألمانيا.
غادرت فرنسا مالي عنوة، وبدأت دول غرب إفريقيا تظهر تذمرها من التدخل الفرنسي في شؤونها الداخلية، وتشجع الشبكات الاجتماعية على أن تكون صوتها غير الرسمي المتأفف من الضيف الفرنسي الثقيل، وتعيش الجزائر أزمة طارئة مع الحليف الفرنسي بعد أيام من العسل الذي قابله توتر غير مسبوق بين المغرب وفرنسا. حل سيرجي لافروف وزير خارجية روسيا ضيفا على موريتانيا في زيارة وصفتها صحيفة لاكروا الفرنسية ب”المفاجأة الموريتانية”، وأن الحليف التاريخي لفرنسا ينفلت من يدها لصالح اليد الروسية الممدودة بالدعم العسكري، والمادي، والغذائي، وغيره في هذا البلد الصغير الصامت، في انتظار زيارة للمغرب أعلن عنها لافروف دون ذكر تفاصيل، تحضيرا للقمة الروسية الإفريقية التي تريد من خلالها روسيا أن تظهر أنها ليست في عزلة كما تدعي دول الغرب، بل إن روسيا ترحب بالأحضان في دول الجنوب احتاجا على الغرب الاستعماري.
زيارات لافروف المتكررة إلى إفريقيا، تجعل فرنسا تفقد صوابها وهي ترى حديقتها الخلفية التي تلجأ إليها كلما هجم الجوع على فرنسا، تستولي عليها روسيا.
زاد جوع باريس ضراوة مع الحرب الروسية الأوكرانية، كما زادت أطماع رئيسها إيمانويل ماكرون الذي وجد هذه الحرب فرصته التاريخية لتحقيق أمجاد شخصية، ومصارعة الكبار من قبل روسيا، والصين، وأن يظهر للولايات المتحدة بأن فرنسا القائد الحقيقي في أوروبا الغربية وليست ألمانيا أو “الحمل الألماني” كما تصفها صحف الغرب بعد أن ترددت كثيرا وطويلا في الاستجابة للضغوط الأمريكية، وقبلت بتمرير الدبابات لأوكرانيا.
لا تقبل فرنسا “استقلال” المغرب الكامل عنها لأنها ترى فيه أكثر دولة في إفريقيا، والمنطقة العربية، ولاؤها فرنسي محض، ولا تتقبل فرنسا أن تصيب المغرب بدوره عدوى “الانزعاج من فرنسا” باعتبارها رمز الاستعمار الامبريالي، والتي أصابت عددا من الدول الافريقية التي كانت إلى حد قريب لا تقوم بخطوة بدون استشارة فرنسا، إن لم نقل بدون إذنها.
فهل صورة الملك محمد السادس، أمير المؤمنين، ذو الثقل الديني في عدد من دول إفريقيا، معناها أن المغرب يريد أن يثبت لفرنسا أنه ليس فقط قادر على “الاستقلال عنها”، وأنه لم يعد يريد “الثقة” في بلد لا يريد أن يزعج الجزائر بدعم المغرب في ملف الصحراء، ولا يهمه إن انزعج المغرب، بل هو أيضا يتم استقباله بحفاوة وإجلال في القارة الإفريقية في الوقت الذي تطرد فيه فرنسا منها؟
سيكون من السذاجة الاكتفاء بهذه القراءة العابرة إن لم نربطها بمصطلح مهم يظهر جليا في النظام العالمي الجديد وهو “الدولة الوظيفية”، وهي الرسالة التي بعث بها ملك المغرب مشفرة في صورة “هبة السماد”، وتعجز فرنسا إلى الان عن قراءتها.
ببساطة، المغرب يقول لفرنسا “إنه يمكن أن يكون هذه الدولة الوظيفية التي يمكنها أن تقوم مقامه في المكان الذي تطرد منه فرنسا”.
بمعنى، أنه في حقيقة الأمر، المغرب ليس في صراع مع فرنسا، لكن إيمانويل ماكرون، و”فرقته”، عاجزون عن فك شيفرة الرسالة التي التقطتها الولايات المتحدة الأمريكية سريعا من دول مجلس التعاون الخليجي وبشكل خاص الإمارات والسعودية.
في مقاله على صحيفة “فورين بوليسي” بعنوان”قد تكون دول مجلس التعاون الخليجي أفضل وسيط سلام في حرب أوكرانيا”، يقترح يوجين تشوفوسكي وهو كبير المحللين السياسيين والاقتصاديين والأمنيين لقضايا الشرق الأوسط وروسيا، على واشنطن أن تستفيد من التوجه الجديد الذي تظهره كل من السعودية والإمارات في تعاملها مع الحرب الروسية الأوكرانية، إذ أنها لم تبق على الحياد، ولم تنضم إلى روسيا، لكنها في نفس الوقت تخلت عن تبعيتها التقليدية لواشنطن، ورفضت التضييق على روسيا، ونبه يوجين إلى أن هذه الدول يمكن أن تكون “دولا وظيفية” تساعد الولايات المتحدة في حماية مصالح واشنطن، ودول الغرب، بدل أن تقاطعها، او تعاقبها، وينصب رد الفعل هذا لصالح روسيا.
قد تكون دول مجلس التعاون الخليجي أفضل وسيط سلام في أوكرانيا
تكتب صحيفة لاكروا الفرنسية في عددها ليوم ال17 من فبراير:”يزور بايدن ميونيخ من أجل لقاء زيليسنكي والمشاركة في منتدى لحلفاء أوكرانيا…تدعم الصين روسيا، والتحقت عدد من دول الجنوب بهذا الحلف…لقد فقد الغرب هيمنته على العالم…وعقد مؤتمر ميونيخ هذا هو اليوم الذي يؤرخ لسقوط الهيمنة الغربية، وبداية نظام عالمي جديد”.
قالتها صحيفة فرنسية، وقالتها قبلها عدد من صحف واشنطن، لكن يبدو أن إيمانويل ماكرون لا يقرأ الصحف، أو أنه لا يقرأ سوى الصحف التي يتحكم فيها المدير العام للأمن الخارجي “برنارد إيمي”، وإلا لكان فهم رسالة “الهبة الملكية”، وتفادى هزيمة باريس أمام القوة الناعمة الروسية التي تكتسح إفريقيا، وحفظ ماء وجه فرنسا ووجودها في إفريقيا عبر دعم غير محدود ل”أمير المؤمنين”.