إحياء “مجلس التعاون للأنظمة العربية الوراثية” بات ضرورة ولم يعد خيارا..

لم تكن الأنظمة العربية الوراثية بمنأى عن تأثيرات وانعكاسات ثورات الربيع العربي واحتجاجاته، بعضها هبت عليه عواصف عاتية هزت أركانه وهددت كيانه، فيما البعض الآخر داعبته نسائم خفيفة كانت كافية بأن توقظه من وهم أنه يمثل حالة استثنائية، وتذكره بأنه مهما بالغ في التأكيد على خصوصيته، فلن يستطيع إدارة ظهره لما يقع في محيطه العربي القريب.

وطبيعي في هذا الإطار أن تختلف أشكال التعامل مع هذا الزائر الثقيل، فقد لوحظ أن تعامل الأنظمة التي وجدت نفسها في مواجهة العواصف العاتية كان متباينا بين من سعى إلى استيعاب الظاهرة بإحداث تغييرات جدية في حياته السياسية، وبين من حاول امتصاص حدتها بالرفع من مستوى اهتمامه بالمطالب المعيشية لمواطنيه ؛ فيما استطاعت الأنظمة التي داعبتها نسائم الثورات وأدها ومحاصرة أي تمدد داخلي لها.

لقد أدركت الأنظمة التي أصابها رذاذ الثورات فقط بأن الأمر يتعلق بموجة عارمة غير عابرة، وأن حلفاءها الدوليين التقليديين ليسوا في وارد تأمينها، بل هم يستثمرون في الظاهرة لتوسيع دائرة مصالحهم، ومضاعفة مكاسبهم، ولن يترددوا في ابتزازها مستغلين الأبعاد الرخوة في نسيجها الاجتماعي، وفي وضعها الحقوقي، وخاصة ما يسجل عن وجود تجاوزات ضد بعض الوافدين الأجانب عليها.

ولهذا لم يكن مفاجئا عدم وقوف هذه الأنظمة عند تحصين نفسها ومجتمعاتها فقط، وإنما انطلقت تتعامل مع هذه الظاهرة المستجدة في المنطقة بأسلوبين، يسعى الأول منهما إلى الاحتياط  من أي تطورات سلبية لها، وما قد تسفر عنه من احتمالات سلبية، فيما يرى الثاني في هذه الحراكات الشعبية فرصة يمكن استغلالها لدعم الموقع الدبلوماسي وعرض مقومات القوة الناعمة من خلال توسيع دائرة الإشعاع الثقافي والريادة الإعلامية، فضلا عن إبراز القدرات الاستثمارية بغية تحقيق استفادة اقتصادية ومالية أيضا.

ومع ذلك فقد برز تباين واضح في مواقف هذه الأنظمة إزاء كيفية التعامل مع الثورات والاحتجاجات، ومع ما نجم عنها من تغييرات كان بعضها جذريا في عدد من الساحات، وخاصة حيث استفادت تيارات الإسلام السياسي ووصلت بشكل أو بآخر إلى السلطة، إذ تبلورت ثلاثة طرق للتعامل مع الظاهرة ومخرجاتها.

ففي الوقت الذي سعت الطريقة الأولى إلى تأييد هذه الاستفادة والعمل على ترسيخها، عملت الطريقة الثانية على استيعاب هذا الصعود اللافت للإسلام السياسي من خلال صهره في بوتقة السلطة لإخماد جذوته فيما بعد، بينما  لم يدخر الموالون للطريقة الثالثة أي جهد لتقويض هذا الصعود والاستثمار في دحر أي وجود له أو للتنظيمات الدعوية والاجتماعية والفكرية التابعة له.

ورغم هذا التباين، إلا أن الأنظمة العربية الوراثية توحدت فيما يتعلق بضرورة تبادل الدعم فيما بينها ومساعدة من يحتاج منها للمساعدة، وهو الأمر الذي جسدته مبادرة الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز بدعوة كل من المغرب والأردن إلى الانضمام لمجلس التعاون الخليجي على أمل تحويله إلى تنظيم مؤسساتي للأنظمة العربية الوراثية قاطبة.

وكما هو معلوم، فإن النقاشات والاتصالات التي جرت بشأن هذه المبادرة انتهت إلى بلورة شراكة استراتيجية بين دول مجلس التعاون ككتلة، وكل من المغرب والأردن على حدة، معززة ببرنامج دعم مالي بمبلغ خمس مليارات دولار لكل منهما على مدى خمس سنوات، وبحرص على تجسيد تلك الشراكة بانعقاد قمم واجتماعات وزارية.

ومن بين العديد من اللقاءات والاجتماعات التي عقدت في هذا الإطار برزت القمة التي استضافتها الرياض في أبريل 2016 بين قادة الخليج والعاهل المغربي، وذلك بانعقادها عشية وصول الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما إلى السعودية لحضور القمة الثانية آنذاك لبلاده مع دول مجلس التعاون الخليجي، إذ كانت تلك القمة بمثابة رسالة مشتركة من المجتمعين مفادها أن دولهم تربطها وشائج أخوة ومصير واحد يفرض عليها أمانة الدفاع عن بعضها البعض، وعدم السماح بالمساس باستقرارها أو بقضاياها ومصالحها المصيرية.

صحيح أن تواصل الأنظمة العربية الوراثية فيما بينها خفت إلى حد كبير، بل وصل في فترة من الفترات إلى الفتور والقطيعة كما حصل سنة 2017 بين بعض العواصم الخليجية، ولكن ذلك تم تجاوزه بتغليب جانب الحكمة كما جسدته قمة العلا في المملكة العربية السعودية، انطلاقا من أن ما يجمع بين كافة الأنظمة العربية الوراثية رغم خصوصياتها المحلية يتجاوز المقومات التقليدية للوحدة والشراكة كاللغة والدين والحضارة وغيرها ليصل إلى التشبث بالقيم والمبادئ الإنسانية السامية كالاعتدال والتسامح والتعايش، فضلا عن مواجهة نفس التهديدات والتحديات.

إن التطورات الدولية المتسارعة المتسمة بالتقلب والتعقيد والغموض وانعدام اليقين، وما يجري الإيحاء به أكاديميا، والترويج له إعلاميا عن إمكانية اندلاع موجة ربيع عربي جديد لن يستثني أي عاصمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وبروز إرهاصات لذلك هنا وهناك في شكل هبات اجتماعية بغطاء مطالب معيشية تبدو فوق طاقة أي نظام عربي وراثي مهما كانت إمكانياته، كما لا تسمح لأي كان بترف اختلاق أزمات جانبية أو الدخول في تنافس غير ذي جدوى في هذا الملف أو ذاك.

بالعكس، فإن الحاجة ماسة إلى إعادة الدفء للتواصل بين الأنظمة العربية الوراثية التي لم يعد استهداف استقرار بعضها واستنزاف البعض الآخر وإنهاكه مخفيا. والمأمول ألا تتم إدارة التواصل والتكامل المنشودين بالأطر الدبلوماسية التقليدية، وإنما من الضروري بلورته من خلال بناء مؤسسات قارة متخصصة تتابع عن كثب تنفيذ ما يجري الاتفاق بشأنه على كافة المستويات، وتطرح في ذات الوقت اقتراحات ومبادرات.

فالحذر واجب من أن يستعير البعض ما جاء على لسان الثور الأسود: أكلت يوم أكل الثور الأبيض.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة