التعاون العربي المشترك: النوايا نبيلة والحصيلة ضئيلة

انعقدت القمة العربية العادية 32 بالسعودية يوم 19 مايو 2023 وسط وعي عربي عام بحالة عدم الاستقرار الحادة في الأوضاع الدولية الراهنة، التي تتسم بحصول متغيرات ومستجدات فجائية، سريعة التقلب، لبعضها ارتباطات وتشابكات وتأثيرات حية وحيوية بعموم المنطقة العربية، تأثيرات من شأنها أن تشكل تهديدا جديا لأمن وسيادة عدد من البلدان العربية إن لم يكن لمعظمها إذا تركت تتفاقم.

وتسود القناعة لدى أوساط عربية عديدة بأن هذه المتغيرات، وبعضها يحصل داخل النظام الإقليمي العربي نفسه كفيلة بأن ترهن لمخاطر غامضة ومبهمة، وربما لليأس مستقبل الكيانات السياسية للبلدان العربية الأكثر عرضة لها، وأن تؤثر سلبا فيما تبقى من تماسك بين مختلف المكونات الاجتماعية والعرقية والدينية لشعوبها، وذلك إذا لم تواجه بحكمة وقدر كبير من التضامن يفرض تفعيل المفاهيم النبيلة لهذا التضامن.

في هذا السياق لم يكن مستغربا أن يشير معظم القادة العرب الذين تناولوا الكلمة خلال القمة العربية إلى خطورة هذه المتغيرات، وأن يحرصوا على التنبيه لما تحمله من انعكاسات سلبية على الأمن القومي العربي رغم عدم وجود تحديد دقيق، شامل، جامع ومانع لهذا المفهوم، وأن يحذروا تبعا لذلك من مغبة تعريض ما تبقى من استقرار هش في مناطق متفرقة من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لمخاطر الفوضى والاضطرابات، وما ينجم عنهما من فراغ يمكنه أن يمثل إغراءا جذابا للمزيد من التدخلات الإقليمية والدولية في الشؤون العربية، بشكل يمكنه إجهاض بعض المحاولات الخجولة لتسوية الأزمات العربية.

غير أن نتائج القمة العربية التي كان يراد لها أن تكون نقلة نوعية في التعاون العربي المشترك، ونقطة انطلاق تآزر جاد في العديد من الملفات المصيرية لم تعكس خطورة المخاوف، التي تحدث عنها القادة العرب، ولم تتخذ بشأنها أي قرارات حاسمة وملزمة، كما لم تحاول إعطاء مفاهيم كثيرة التداول مثل “الأمن القومي العربي” و”العمل العربي المشترك” أي محتوى ملموس لتتركها كما كانت مجرد مفاهيم مطاطة موجهة للاستهلاك الإعلامي الداخلي حسب الظروف الخاصة لكل بلد.

ففيما يخص الأمن القومي العربي شدد إعلان جدة الصادر عن القمة العربية الأخيرة على أهمية وقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية، ولكنه لم يلوح لا تصريحا ولا تلميحا باتخاذ أي إجراء ضد تلك التدخلات، علما بأنها موجودة على أرض الواقع، ومتعددة المصادر إقليمية ودولية وتتفاقم يوما بعد يوم، متخذة في عدد من الحالات طابعا عسكريا واضحا، ناهيك عن التدخلات السرية لمختلف المخابرات الأجنبية، وكذا التحذيرات والتهديدات بل والعقوبات ذات الطبيعة الاقتصادية والتجارية والمالية وغيرها.

وإذا كانت الأمانة العلمية تقتضي عند تحليل محتوى إعلان جدة تسليط الضوء على الصرامة التي بدت في رفضه لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة، وكذا في تحذيره من أن الصراعات العسكرية الداخلية في البلدان العربية لا تفضي سوى إلى تدمير الأوطان، ومفاقمة معاناة الشعوب ؛ فإن ذات الأمانة تفرض الإشارة إلى أن تلك الصرامة سرعان ما فقدت قوتها وأي مفاعيل إيجابية تضمنتها، وذلك بعدم قدرة الإعلان عن تسمية الجماعات والميليشيات المعنية، وعن إنذار أو على الأقل تقريع الدول التي تقف وراء تلك الميليشيات وتغذي آلتها الإرهابية، ومن بينها دول عربية لا تخفي إرادتها في تفكيك وتمزيق الوحدة الترابية لدول عربية أخرى، وتبذل كل المساعي الممكنة لتحقيق مبتغاها.

أما بالنسبة لما يتعلق بمفهوم العمل العربي المشرك، فإن قمة جدة ظلت وفية للعادة المتبعة في القمم السابقة، إذ استخدمت هي الأخرى نفس المصطلحات الرنانة المعهودة، ولكن البعيدة كل البعد عن إمكانية التجسيد ولو بشكل جزئي على أرض الواقع من قبيل التأكيد على أهمية تعزيز العمل العربي المشترك وضرورة الارتقاء به، والاستفادة من المقومات البشرية والطبيعية العربية للتعاطي مع تحديات العصر الراهن، وبما يخدم الأهداف والتطلعات نحو مستقبل واعد للشعوب والأجيال القادمة.

وعلى ذات المنوال، وبذات المفاهيم المبهمة أبدت القمة العربية المزيد من الحرص على التعاون من أجل تهيئة الظروف واستثمار الفرص وتكريس الشراكات وترسيخ التفاهمات، وتفعيل الإمكانيات المتوفرة واستثمار التقنية من أجل بلوغ ما أسمته التنمية المستدامة وتنفيذ الرؤى التنموية الطموحة، وتحقيق نهضة عربية صناعية وزراعية شاملة تتكامل في تشييدها كل طاقات الدول العربية وقدراتها.

ومما لاشك فيه، فإنه لا يمكن الاختلاف على الطابع العمومي الفضفاض للغة التي صيغ بها إعلان جدة فيما يتعلق بالتعاون العربي المشترك في المجالات الحيوية، وعلى تهربها من تشخيص المعطيات الاقتصادية والسياسية والأمنية الحقيقية للواقع العربي، وهي معطيات في معظمها سلبية، وقد تغدو كارثية بالنسبة لبعض الحالات ؛ ولكنها  رغم ذلك تضمنت هذه المرة بصيص نور أمل خافت في آخر النفق بحرصها على تثمين عدد من المبادرات العملية، التي قدمتها السعودية بصفتها رئيسة القمة الحالية، وأهمها:

*مبادرة استدامة سلاسل إمداد السلع الغذائية الأساسية للشعوب العربية، وهي مبادرة يمكنها أن تكون خطوة عملية للتعاون في مواجهة انعكاسات الأزمة الغذائية العالمية على الدول العربية، التي يتوقع أن تستفحل أكثر مع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا.

*مبادرة البحث والتميز في صناعة تحلية المياه، التي ينبغي أن يبدأ العمل بها اليوم قبل الغد في ضوء ما تعرفه معظم الدول العربية من شح في المياه، وفي ضوء التغيرات المناخية العالمية ذات التأثير السلبي الكبير على هذه الدول.

فهل سيتجاوز العرب مرحلة تثمين المبادرات والتنويه بها إلى مرحلة تنفيذها؟

إن غدا لناظره قريب.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة