الخليج والقضايا العربية: تنافس لا نهاية له

لم يتحدث كثير من المثقفين والكتاب الخليجيين، وخاصة المقربين منهم من دوائر صنع القرار السياسي من فراغ عندما أكدوا ثم هللوا فيما بعد لما أسموه “الزمن الخليجي في العالم العربي”. فلا يختلف اثنان على أن زمام أقوى المبادرات، وأكثر التحركات على الصعيد العربي أصبح بين أيدي بعض الدول الخليجية، التي تتعاظم أدوارها العربية البينية يوما بعد يوم، وفي مختلف المجالات، كما باتت تحركاتها الإقليمية، وعلى المستوى الدولي تستأثر بأكبر قدر من الاهتمام الإعلامي والدبلوماسي العالمي.
ويعود هذا الأمر الذي بدا واضحا غداة اندلاع ثورات الربيع العربي واحتجاجاته، وتكرس مؤخرا إثر اندلاع المواجهات العسكرية في قطاع غزة إلى مجموعة من العوامل أبرزها:
*انطواء العواصم العربية الناشطة تاريخيا على نفسها إما للانكباب على حل مشاكلها الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدت تدهورا مريعا، أو لمواجهة عواصف التغيير التي هبت عليها، وأدت في بعض الحالات  إلى الإطاحة بأنظمتها السياسية المألوفة، وفي أخرى إلى اندلاع حروب أهلية كانت مدمرة.
*تزايد الثقل الذي تمثله قرارات هذه الدول الخليجية في ميادين الطاقة من حيث تحديد كميات الإنتاج، ومن حيث التحكم في الأسعار، ناهيك عن سخاء هباتها وتبرعاتها الموجهة، وعن تنامي التهافت الدولي على خطب ود الاستثمارات من صناديقها السيادية.
والملاحظ أن هذا الزمن الخليجي على المستوى العربي، وفي بعده الإقليمي أيضا لم يقتصر على الجانب السياسي بالانغماس في عدد من الصراعات الإقليمية إما بالتحيز لطرف دون آخر أو بلعب أدوار الوساطة، وإنما امتد إلى معظم الأنشطة البشرية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية، بل والدينية كذلك في شكل خطوات منفردة من كل بلد على حدة. خطوات تنحو في ذات الاتجاه أحيانا، وتكون متناقضة وحتى متضاربة أحيانا أخرى، رغم أن هذه الدول يضمها منذ سنة 1981 مجلس للتعاون يعتبر تنسيق سياسات الأعضاء من مهامه الأولى.
ولذلك، فإن اتخاذ الخطوات المنفردة والمواقف الأحادية الجانب من طرف كل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة على صعيد السياسات الخارجية ليس أمرا جديدا في المنطقة، ولكن انعكاساتها، وخاصة السلبية منها الناجمة عن اتخاذ مواقف متباينة أو متصارعة ظلت في معظم الأوقات حبيس الكواليس الدبلوماسية غير مكشوفة ولا معلنة، تختبأ خلف الحد الأدنى من التوافق الذي يحصل دوما بين قادة الدول في قممهم الرسمية والتشاورية التي يحرص الجميع على انتظام اجتماعاتها.
إن خاصية إبقاء تباين وجهات النظر وكذا الخلافات داخل البيت الخليجي الواحد طي الكتمان، وبعيدا عن الأضواء الإعلامية قدر المستطاع بدأت في التلاشي تدريجيا مع الطريقة التي تم بها انتقال السلطة في قطر سنة 1995، إذ أعربت بعض الدول آنذاك علانية عن رفضها لتلك الطريقة، بل ولم تخف رغبتها في تصحيح ما وقع ؛ الأمر الذي نجم عنه صراعات خليجية مكشوفة  كانت الهجمات الإعلامية المتبادلة أبرز معالمها.
ومن الطبيعي في هذا السياق، المدعوم بانتشار وسائط التواصل الاجتماعي، أن تختفي خاصية التعتيم على المشاكل الخليجية، وتضارب المواقف بين أعضاء مجلس التعاون بصفة نهائية مع بروز الخلافات بشأن نظرة عواصم الخليج لإفرازات ثورات الربيع العربي واحتجاجاته سواء عندما هزت أركان البيت الخليجي نفسه أو عندما طالت بلدانا عربية أخرى، وهي بلدان بات بعضها مسرحا لصراعات أنظمة خليجية أبدت نزعة غير معهودة فيها للتدخل في تحديد مصير أنظمة تلك البلدان، وتوجيه بوصلة التطورات في مجتمعاتها بما يتلاءم وأهدافها.
وأمام ضراوة بعض الصراعات الخليجية البينية في الساحات العربية الملتهبة بين مؤيد وداعم لتنامي قوة التيارات الإسلامية ووصولها للسلطة، ومعارض لذلك ومقاوم له من منطلق تأمين استقرار الأوضاع، وبتعاون مع القوى المحلية وخاصة الأمنية والعسكرية المناهضة للإسلاميين والمتوجسة من سطوتهم، لم يكن ممكنا الحفاظ على الحرص الذي أبدته الأنظمة الخليجية المعنية بتفادي المواجهة المباشرة فيما بينها وداخل خيمتها الواحدة.
لهذا يمكن القول بأن ذروة عمق الخلافات الخليجية البينية، التي فاقمت هوة عدم الثقة بين أعضاء مجلس التعاون الأكثر انغماسا في القضايا الإقليمية والدولية، والأبرز حضورا على مختلف المنصات الإعلامية قد انكشفت جزئيا في الأزمة الدبلوماسية التي نشبت بين بعض الأعضاء سنة 2014، ثم انفجرت كليا سنة 2017 عندما قررت ثلاث عواصم خليجية إضافة إلى القاهرة قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة، واتخاذ مجموعة إجراءات عقابية ضدها، متهمة إياها بتهم عكست الانشغالات الخاصة بكل عاصمة على حدة، أكثر من الانشغالات المشتركة.
لقد تمحورت تلك الاتهامات حول ما قيل عن مساندة قطرية متعددة الأوجه لتيارات إسلامية سنية وشيعية مصنفة كحركات إرهابية، ومرتبطة بقوى إقليمية ذات نزعة توسعية، وإيواء قادتها ورموزها، فضلا عن نهج سياسة إعلامية تسعى إلى التحريض وإشعال الفتن، وبث الفرقة وزعزعة الثقة بين الشعوب وأنظمتها السياسية.
ورغم ضخامة هذه الاتهامات، وضراوة العقوبات التي فرضت على إثرها، وقوة التهديدات التي رافقتها، فإن دول الخليج استطاعت كبح جماح الانزلاق نحو المواجهة المسلحة داخل بيتها، لتنتقل بعد ذلك إلى تغليب جانب الحكمة، الذي برز بشكل واضح في القمة 41 لقادة مجلس التعاون الخليجي بمدينة العلا السعودية في يناير 2021، التي أعادت المياه إلى مجاريها بين الدوحة ومعظم العواصم المختلفة معها، وجددت التأكيد على ضرورة مساهمة الجميع في تحقيق الأهداف السامية لمجلس التعاون الممثلة في تمتين وترسيخ التعاون والترابط والتكامل بين الأعضاء وصولا إلى وحدتهم وعملهم كمجموعة اقتصادية وسياسية واحدة بغية تعزيز دورهم الإقليمي والدولي، وتعميم أجواء الأمن والسلام والاستقرار والرخاء في المنطقة.
وبالفعل، فإن روح قمة العلا انعكست إيجابيا على بعض مسارات العلاقات الثنائية داخل الخيمة الخليجية، غير أنها لم تكن كافية لحث أعضاء مجلس التعاون على السعي للعمل كمجموعة سياسية واقتصادية واحدة، إذ سرعان ما عاد التنافس بين العواصم الأكثر حركة على الساحتين الإقليمية والدولية، مرتديا أبعادا متعددة سياسية واقتصادية واستثمارية وثقافية ورياضية أيضا، ومشحونا بما لبعض القادة من طموحات للاضطلاع بأدوار عالمية التوجه، أدوار يعتقدون أن من الممكن الوصول إليها من خلال  تولي زمام الريادة في المحيط العربي.
وكما يستشف من مجموعة مستجدات وتطورات متسارعة في المنطقة أن هذا التنافس بين العواصم المعنية ورغم غياب أي توازن للقوة والإمكانيات بينها بدأ ينزلق تدريجيا نحو صراع خفي تجلى مؤخرا في مواقف دبلوماسية كالامتناع عن الحضور الشخصي للقادة للاجتماعات الإقليمية والعربية التي تحتضنها هذه العاصمة أو تلك، وفي إجراءات اقتصادية واستثمارية متضاربة تحت شعار تنويع مكونات الاقتصاد الوطني، وكذا في تسريبات صحفية اكتسبت بعض المصداقية من عدم تكذيبها.
ورغم أن ضراوة الصراع الجاري حاليا في الأراضي الفلسطينية المحتلة قد أعادت بعض الانسجام لمواقف العواصم الخليجية، إلا أن أغلب التوقعات توحي بإمكانية عودة التنافس من جديد بين البعض منها بشأن مستقبل إدارة قطاع غزة إن لم يكن هذا التنافس قد بدأ في الكواليس.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة