الصراع على “الدولة الوظيفية” في العالم الجديد

منذ ظهور الدولة بمفهومها الحديث، والعالم يشهد تنافسا بين مختلف بلدانه سعيا من كل واحد منها إلى أن يؤمن لنفسه مكانة محترمة ومقدرة على مسرح السياسة العالمية بشكل ينعكس إيجابيا على سمعة البلد المعني وعلى نماء اقتصاده، واستقرار مجتمعه، ورفاهية شعبه، وأن يدرأ أي تفكير أو تآمر من شأنه هز ثوابته، والعبث بأمنه، ومحاصرة مصالحها.

وبديهي في سياق السعي لتحقيق هذه الغايات أن تكون عملية إعداد القرارات واتخاذ الإجراءات المرتبطة بالسياسات الخارجية لأي دولة عملية معقدة لا تقتصر على الجهاز الدبلوماسي وإداراته المختلفة، وإنما تتطلب مشاركة مؤسسات الدولة الدستورية، وكذا الهيئات الاقتصادية والتجارية والدوائر الأمنية والعسكرية لكي تكون الأدوار، أو “الوظائف”، فعالة ومنسقة بغية رفع قيمة المنفعة العائدة منها على البلاد في المدى المنظور، والبعيد أيضا.  

وبعيدا عن الأدوار التي تمارس بالقوة العسكرية الخشنة وبالدسائس والمؤامرات، فإن التنافس يجري بين الدول عادة من خلال الأدوار التي تتبارى للقيام بها في مجال السلام والأمن الدوليين، وفي ميادين التكافل الخيري والإنساني، وتطوير التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري والثقافي والعلمي، فضلا عما تسعى لإحرازه من إنجازات سياسية وعلمية وريادة ثقافية وفنية ورياضية، من دون إغفال عامل إسهامها في مواجهة الإرهاب وتجفيف منابعه، وتوفير أكبر قدر من المعلومات لإجهاض المخططات الإجرامية لتنظيماتها.

وبطبيعة الحال، فإن نوعية الأدوار ذات الطابع الإيجابي، التي تأمل أو تريد مختلف الدول لعبها، ومداها الجغرافي لا تتوقف على وجود الرغبة فقط، وإنما أساسا على  ما لديها من إمكانيات مادية وبشرية وتقنية، ومن أدوات القوة الناعمة اللازمة لتلك الأدوار، وعلى مدى اتساع دائرة إشعاعها وامتداد نفوذها، وقبل ذلك ضرورة توفرها على الإرادة السياسية للقيام بهذه الأدوار، فضلا عن امتلاك المعرفة والخبرة اللازمتين للعبها بشكل جيد وفي الوقت المناسب، والقدرة على تحمل واستيعاب تبعاتها، والنتائج التي تتمخض عنها، بالإضافة إلى مدى متانة جبهتها الداخلية وتلاحم كل مكونات مجتمعها.

في هذا السياق من البديهي أن تتفاوت الدول في حجم الأدوار التي تلعبها، بين من بإمكانها  القيام بأدوار كونية على مستوى العالم كله، وفي الفضاء أيضا، وبين من تطمح فقط إلى تعزيز دورها الإقليمي والقاري أو فقط على الصعيد الجهويSubregion، فيما بعض الدول لا تبحث إلا عن القيام بأدوار تساعدها في سياساتها الداخلية الرامية لتوطيد أمنها، وجعله عصيا على أي اختراق خارجي كيفما كان نوعه، ومن أي جهة كانت.

ويعود مثل هذا التفاوت في طبيعة الأدوار ومداها إلى أن السياسة الخارجية لأي بلد هي من الناحية النظرية مجرد انعكاس بشكل أو بآخر لسياسته الداخلية ؛ الأمر الذي يفرض على هذا البلد أن يزن بدقة تحركاته وتصرفاته بين ما يجب أن يحصل وما يمكن أن يحصل، بين مراعاة الالتزام بمبادئ معينة وضرورة الدفاع عن مصالح محددة، كما أن عليه أن يكون مستعدا لكافة الاحتمالات الممكن حدوثها في هذا الصدد.

وفي عالم مضطرب، العامل الثابت الوحيد فيه هو كثرة المتغيرات، وتعدد التحولات، وتسارع التطورات والمستجدات، وبالتالي لاعجب في أن يحتدم التنافس، ويسخن وطيس التسابق بين الدول في الأدوار التي تود القيام بها، وأن تتجاوز آليات وأدوات هذا التسابق رغم إيجابيته حدود المسموح به، والإطار المشروع الذي يفترض أن تتحرك ضمنه لتصل حينما تنعدم الثقة وتسود روح العداوة إلى الضرب تحت الحزام، والعمل على سحب البساط من تحت الأقدام بكل الوسائل المتاحة من تواطؤ ودسيسة ونميمة، وتشويه للسمعة وغيرها من الأساليب القذرة.

وبلا شك فإن المعطيات السابقة لا تبرهن فقط على ضراوة المنافسة، وعلى استعداد المنغمسين فيها لتجاوز كل القوانين والأعراف الأخلاقية المفترض أنها تنظم العلاقات الدولية، وإنما لا تسهل أيضا على أي دولة عملية تحديد ماهية الدور الذي يمكنها أن تلعبه بشكل دقيق، ولا تساعدها مطلقا في حصر المدى الترابي الذي يمكن أن يصله التأثير المراد إحداثه من وراء ذلك الدور، ناهيك عن صعوبة فرضه، وانتزاع اعتراف بقية أعضاء المجتمع الدولي به.

ومع ذلك، فإن هذا التعقيد الذي يشوب عملية تحديد الأدوار وكيفية القيام بها على صعيد السياسة الخارجية لا يمكنه أن يكبح أو يثني أي دولة عن القيام ببعض هذه الأدوار ولو في إطار مجالها الجغرافي الضيق، وبما يتناسب وإمكانياتها المادية والبشرية، وينسجم مع توجهاتها وتطلعاتها، وما لديها من تجارب تاريخية في هذا المجال.

ولا شك في أن المغرب يسعى إلى أن يكون الدولة الوظيفية التي لها أدوار إفريقيا وعربيا، انطلاقا مما هو معروف عنه من اعتدال في سياساته ومواقفه، وجنوح إلى إعلاء قيم التعاون والتسامح والتعايش السلمي، وهو مسعى من الواجب مواصلته بذكاء، ودون منة، وحشد كل الإمكانيات اللازمة له بتعاون مع بعض الأشقاء العرب والأفارقة الذين لديهم نفس الرغبة بعيدا عن المزايدة، وعن الدخول في أي نوع من المنافسة التي يمكنها إثارة حفيظة أو حساسية هذا البلد أو ذاك.

 

مقالات الرأي لا يتبناها “البهموت”، ولا تعني إلا كاتبها، حرصا على الوفاء لشعار”الرأي رأيك”

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة