المغرب وفرنسا: التعامل باستعلاء يفاقم الجفاء

يتابع المختصون في العلاقات المغربية الفرنسية باستغراب كبير استمرار الأزمة التي تعيشها هذه العلاقات، وفشل بعض المحاولات الخجولة المبذولة علانية، وفي الكواليس من اجل احتوائها في أفق تسويتها وتجاوز تبعاتها، بغية إعادة هذه العلاقات التاريخية المترابطة والمتشابكة المصالح، والمتنوعة المجالات إلى سكتها السليمة والمعتادة.

وفي سياق البحث عن الأسباب العميقة لاستمرار هذه الأزمة تعددت اجتهادات وآراء هؤلاء المختصين، ركز كثير منهم على الدور الأساسي الذي لعبه الموقف الفرنسي المتذبذب والضبابي من الوحدة الترابية للمغرب في نشوب الأزمة، معتبرين أن فرنسا هي المقصودة في المقام الأول بما ورد في خطاب العاهل المغربي في ذكرى المسيرة الخضراء يوم 6 نونبر 2022 لكونها واحدة من أهم شركاء المغرب، إن لم تكن الشريك الأكثر أهمية.

ففي ذلك الخطاب كان العاهل المغربي صريحا وجازما حين أكد على أن المغرب لن يبادر أبدا للقيام مع “أصحاب المواقف الغامضة أو المزدوجة” بأي خطوة اقتصادية أو تجارية لا تشمل أقاليمه الجنوبية، وأنه ينتظر من شركائه مواقف أكثر جرأة ووضوحا بخصوص قضية وحدته الترابية.

ومما لا شك فيه، فإن للموقف الفرنسي غير الحاسم من قضية الصحراء المغربية دور كبير في الجفاء السائد في علاقات باريس بالرباط، وهو موقف تبنته الدبلوماسية الفرنسية وأدمنته على مدى عقود، متوهمة أنه كفيل بتأمين مصالحها لمدة زمنية طويلة في كل من المغرب والجزائر باعتبارهما الطرفين الرئيسيين في هذا النزاع المفتعل في أقصى شمال غرب إفريقيا، متجاهلة عوامل أساسية وأخرى طارئة يمكن إيجاز أبرزها فيما يلي:

*لقد حسمت أو طورت دول كثيرة وازنة ومتزنة على الساحة الدولية موقفها من هذا النزاع، وفي مقدمتها الولايات المتحد الأمريكية، التي اعترفت بالسيادة القانونية الكاملة للمغرب على أقاليمه الجنوبية، وكذا دول أوروبية كبيرة أقرت بأن مبادرة الحكم الذاتي المقترحة من المغرب هي الحل الأمثل لهذا النزاع الذي طال أكثر مما يلزم وعلى ألمانيا وإسبانيا.

*إن هذا النزاع مفتعل من الأساس، ولا يمكن وضع طرفيه في كفة ميزان واحدة والتعامل مع مواقفهما من النزاع على قدم المساواة. فالمغرب هو صاحب السيادة الأصلية والتاريخية على صحرائه، وقد استرجعها وفق قواعد القانون الدولي، التي يحرص لحد الساعة على مراعاتها والتصرف على أساسها، فيما الجزائر تعاديه وتعرقل مساعيه لأهداف توسعية وأوهام للهيمنة على المنطقة بأكملها.

وبطبيعة الحال، فلا أحد يدرك حقيقة هذا العامل الأخير أكثر من فرنسا، باعتبارها القوة الكولونيالية التي ساهمت بقسط كبير في ترسيم الحدود المصطنعة بالمنطقة، حيث ما تزال تحتفظ في أرشيفها الاستعماري بالوثائق التي تثبت قيامها بتوسيع مساحة المناطق التي كانت تعتبرها جزءا من ترابها الوطني فيما ما وراء البحار على حساب سيادة الدول والإيالات التي أبرمت معها معاهدات حماية فقط.

لهذا، فإن المنطق يتطلب أن تكون باريس المتباهية دوما بحرصها على احترام قيم الحرية والعدالة والمساواة والترويج لها والدفاع عند الضرورة عنها، من أوائل القوى الدولية التي تراعي هذه العوامل التاريخية والقانونية المشروعة من أجل تغيير موقفها أو تطويره على الأقل في اتجاه الاعتراف للمغرب بحقه في استكمال وحدته الترابية، وهي الخطوة التي كان الرئيس الراحل جاك شيراك قد بدأ تهيئة الأجواء لها حين استخدم في أحد تصريحاته مصطلح “الصحراء بالمغربية”، وكان رئيس الدولة الأول الذي بادر إلى الإعلان رسميا عن تأييده لمبادرة الحكم الذاتي التي ما يزال المغرب يراها ومعه معظم المجتمع الدولي الحل الأمثل لهذا النزاع المصطنع.

ولكن العكس هو الذي حصل وما يزال يحصل لحد الآن، إذ رغم أن فرنسا كانت قد التزمت بموجب البيان المشترك الموقع مع المغرب في 2 مارس 1956 ليس فقط بالاعتراف باستقلال المغرب، وإنما باحترام وحدته الترابية كما ضمنتها المعاهدات الدولية المبرمة قبل فترة الحماية، فإن الدوائر الأمنية والاقتصادية النافذة في النظام السياسي الفرنسي ذات الحنين إلى الفترة التوسعية الكولونيالية قد تمكنت من إقبار خطوات الرئيس شيراك بعد انتهاء ولايته الثانية، لتفرض على من أتوا بعده من الرؤساء تبني سياسة العمل على تأبيد الخلاف القائم بين المغرب والجزائر عبر الإثارة المتواصلة للنعرات القديمة، وتغذيتها بين الفينة والأخرى حتى تظل متأججة لضمان استمرار نفوذ فرنسا ومواصلتها ممارسة نوع من الوصاية على دول المنطقة كلها.

إن خطأ هذه السياسة التي حاول الرئيس الفرنسي الحالي ممارستها بشكل مفضوح وبأسلوب يتميز بالنظرة المتعالية والاستفزاز يكمن في تعمد تجاهل الفوارق القائمة بين دولة راسخة وأمة متجذرة في التاريخ من الممكن أن تتساهل في كل شيء إلا في كرامتها وعزتها، وبين نظام يقتات من “الريع التذكاري” مدعيا تمثيل أمة شكك الرئيس ماكرون نفسه في وجودها قبل الاستعمار الفرنسي، ولم يواجه إلا بإجراءات شكلية لا تسمن ولا تغني من جوع سرعان ما تم التراجع عنها.

لقد أظهر الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون ولعا كبيرا بتوظيف التاريخ وما يسميه الذاكرة المشتركة مع الشعوب التي خضعت للاستعمار الفرنسي ولحمايته لبناء علاقات مستقبلية سليمة معها. وقد كلف المؤرخ وأستاذ التاريخ بنجمان سطورا للقيام بمهمة جزئية ومنتقاة في هذا الإطار، ولكن رغم ولعه هذا يبدو أنه لم يكلف نفسه عناء تصفح مذكرات الماريشال ليوطي، الذي ميز بوضوح في أول تقاريره بعد تولي منصب المقيم العام في المغرب بين “قطعة أرض يعلوها التراب وقاحلة والحياة فيها قليلة تحكمها قوة وحيدة تتجلى فيما تبقى من الدايات الأتراك..” وبين “سلطنة لها تاريخها العظيم واستقلاليتها الواضحة، غيورة على سيادتها ومنتفضة في وجه كل استعباد…”.

فهلا تواضع للقيام بذلك؟

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة