المنطقة المغاربية على صفيح ساخن والخلاص في اتحاد إقليمي

تعيش المنطقة المغاربية على وقع توترات متعددة، بعضها محلي داخل كل دولة من دولها، والبعض الآخر يطال العلاقات الثنائية بين بعض تلك الدول، مع ما لذلك من امتدادات إقليمية ودولية في منطقة الساحل والصحراء، والبحر الأبيض المتوسط أيضا. ورغم تفاوت حدة هذه التوترات التي يبدو بعضها مزمنا، إلا أنها جميعا تحبل بمخاطر كبيرة؛ الأمر الذي يضع المنطقة برمتها على براميل بارود قابلة للانفجار في أي لحظة بشكل يستحيل معه التنبؤ بطبيعة الانعكاسات السلبية لأي انفجار محتمل.

والملاحظ بالنسبة للتوترات المحلية هو أن جميع بلدان المنطقة تعاني منها بتباين في درجات حدتها، واختلاف في طبيعة مجالها. ففي الوقت الذي تئن كل دول المنطقة تحت وطأة توترات اجتماعية تتمثل في تعدد الإضرابات العمالية والتحركات النقابية، وتنامي مشاعر التذمر من ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب، وتصاعد تكاليف المعيشة، وتدهور القدرة الشرائية لشرائح واسعة من المواطنين، فإن التوترات ذات الطبيعة السياسية ليست عامة، وليست بذات المستوى في البلدان المغاربية التي تعاني منها.

فهذه التوترات تكاد أن تكون منعدمة في كل من المغرب وموريتانيا حيث قواعد اللعبة السياسية وإمكانية تداول السلطة أكثر وضوحا واحتراما بشكل لا يتيح الفرصة لوجود أي معارضة أو اعتراض على شرعية أنظمة البلدين ورسوخها؛ فيما هي جلية وحادة في ذات الوقت في كل من ليبيا وتونس، وإلى حد ما في الجزائر حيث تسابق الأنظمة الحاكمة الزمن لرفع مستوى شرعيتها السياسية لدى الرأي العام، وتأمين التفاف شعبي وازن حولها، كل وفق خصوصية بلده.

في هذا السياق يتابع المراقبون عن كثب سعي النظام التونسي جاهدا، رغم قوة المعارضة السياسية والنقابية، إلى فرض تطبيق كل الخطوات الدستورية والقانونية التي أقدم عليها منذ إلغاء دستور 2014، وحل المؤسسات المنبثقة عنه في 25 يوليوز 2022، والمتمثلة لحد الآن في تنظيم استفتاء شعبي يوم 18 أغسطس 2022 كانت نسبة المشاركة الشعبية فيه ضئيلة، بغية إقرار دستور جديد، جاءت مواده لتكرس استحواذ مؤسسة الرئاسة على كافة السلطات في البلاد؛ ثم في انتخاب مجلس نواب جديد على مقاس الرئاسة، شهدت انتخاباته هو الآخر امتناع المعارضة عن خوضها، وعزوف عدد كبير من المواطنين عن المشاركة فيها.

ومع ذلك، فإن الوضع السياسي في تونس أقل مدعاة للقلق من نظيره في ليبيا، حيث ما يزال النظام فيها موضع صراع متعدد الأطراف، سلطاته موزعة بين فصائل ومؤسسات متعددة يتفق معظمها على ضرورة الخروج من النفق المظلم الذي توجد فيه البلاد من خلال انتخابات عامة رئاسية وتشريعية في آن واحد، ولكن القوى السياسية الليبية تريد كل واحدة منها تفصيل القاعدة الدستورية المنظمة لتلك الانتخابات على مقاسها، وبما يضمن لها الفوز المسبق من أجل الاستئثار بكامل السلطة أو تأمين المشاركة الفعالة والمؤثرة فيها؛ الأمر الذي جعل البلاد أسيرة حلقة مفرغة لا تلوح في الأفق أي بادرة لكسرها، والتخوف قائم من احتمال انتكاسة الوضع الأمني في ضوء انتشار السلاح، وتعدد الميليشيات الموالية لهذه الجهة ولتلك.

في مقابل التركيز على العمل الداخلي من طرف النظام التونسي لترسيخ شرعيته، والنظام الليبي لبناء تلك الشرعية وتأمين القبول الشعبي الواسع لها مع الاستعانة بجهود الأمم المتحدة، فإن النظام الجزائري تبنى مقاربتين متتابعتين من أجل فرض سيطرته وتطويع المعارضة الشعبية التي قامت ضده في شكل حراك جماهيري واسع سنة 2019. لقد حاول النظام في البداية احتواء ذلك الحراك وتحييد الضغوط الأجنبية التي رافقته باتخاذ مجموعة إصلاحات ثبت من خلال تنزيلها على أرض الواقع أنها شكلية وفارغة المحتوى، إذ همت تغيير الأشخاص وليس أسس النظام.

وإثر فشل هذه المحاولة، ونظرا لعدم استعداد المؤسسة العسكرية باعتبارها مرجعية النظام وصاحبة السلطة الحقيقية فيه للتخلي عن هيمنتها على الساحة السياسية، فإن سدنة النظام الجزائري سعوا بكل ما أوتوا من جهد إلى إعادة تأجيج الأزمات الإقليمية، معتقدين أن بإمكان ذلك أن يحرف أنظار الرأي العام الداخلي عن مشاكله الحقيقية، ويساعدهم في أن يسوقوا للشعب “وهم العدو والخطر الخارجيين”، مستغلين في ذلك أمرين اثنين:

*الحزازات القديمة التي لهم ضد المغرب، وما يعلنوه من عداء سافر لوحدته الترابية، ورغبة في تمزيقها، فضلا عما يضمرونه من كراهية وسوء للبلد برمته.

* الوضع المتقلب في منطقة الساحل، حيث يريد سدنة النظام الجزائري إيهام العالم بجدارتهم في محاربة الظاهرة الإرهابية هناك، التي استطاعوا فعلا اختراق بعض جماعاتها ليس من أجل تحييدها، وإنما للعمل على توظيفها لمصالحهم.

ومن البديهي في مثل هذه الأوضاع أن يستمر وأد الآمال في إمكانية إعادة قطار اتحاد دول المغرب العربي إلى سكته الصحيحة، ونفخ روح جديدة في أوصاله المترهلة، وأن تظهر بوادر استقطاب حاد بين دول المنطقة تذكر بما حصل في عقد الثمانينات من القرن الماضي حين سعت الجزائر إلى تهميش المغرب وتطويقه عبر إبرام معاهدة إخاء ووفاق مع تونس سنة 1983، انضمت إليها موريتانيا سنة 1984، والتي رد عليها المغرب وليبيا بإبرام ما سمي بالاتحاد العربي الإفريقي في ذات السنة.

فهل بهذا التشرذم المصحوب بتزايد ملحوظ في استنزاف موارد الدول المغاربية في إنفاق عسكري وأمني كبير، وتسابق في عقد تحالفات مع قوى دولية وإقليمية أجنبية عن المنطقة يمكن أن نؤمن لهذه الأخيرة حضورها الفعال ككتلة واحدة في عالم باتت تتحكم في مجريات تطورات، بل وفي مصيره الكيانات الكبرى وحدها؟

أعتقد أن الواضحات من الفاضحات.

 

مقالات الرأي لا يتبناها “البهموت”، ولا تعني إلا كاتبها، حرصا على الوفاء لشعار”الرأي رأيك”

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة