التغيرات الجيو استراتيجية الكبرى توازيها تغيرات ذات بعد معرفي دعونا نسميها تجاوزا ايديولوجية. الصراع الدائر بين القطب الغربي تحت لواء الناتو و ما نحتار في تسميته القطب الشرقي بقيادة روسيا صراع عسكري بالوكالة ايديولوجي في واجهته التواصلية. يحتار المراقبون في وصفه بالقطب الشرقي لأن الميت لا يحيى. بالنسبة للأغلبية فالقطب الشرقي مات و شهادة وفاته دفنت مع بقايا جدار برلين. لكن يبدو أن التاريخ لم يقل بعد كلمته الأخيرة و لم تعلن روسيا و لا الصين عن افلاسهما. بالعكس في واجهة الصراع و ضمن المراتب الأولى في الدخل الفردي و القومي و نسبة النمو. بالعكس خطت خطوة للخلف من أجل خطوتين إلى الأمام. فهي مدرسة كارل ماركس و انجلز و قامات أخرى زلزلت المسلمات الفلسفية للغرب و خلقت جهازا مفاهيميا بديلا عن أوروبا الاقطاع و قانون السوق.
في خضم النقاش و الأحداث التي عرفها الإتحاد السوفيتي مع جورباتشيف، مؤيدين بسقوط جدار برلين و توحد الألمانيتين كرمز ماركوتينغي للحسم بأن العالم يعيش نهاية التاريخ، إنتصار لليبيرالية الديموقراطية و كل المنظومة القيمية التي تسوق لها. اليساريون أنفسهم في عديد بلاد أوروبا تبنوا موقفا ايديولوجيا يؤكد هذه الملاحظة. موقف يقول بأنه أصبح بديهي ان الراسمالية قد انتصرت و أقصى ما يمكن فعله هو إصلاح الرأسمالية من الداخل. آخرون ثاروا ضد هذا التيار” النهائي “، و منهم هانتينغتون الذي قال بصراع الحضارات و بأن التاريخ في سيرورة دائمة ضمن هذا الإطار الصراعاتي. و كأننا أمام نظرة ابن خلدون لتطور التاريخ المؤسس، حسبه، على الصراع القبلي. في كلتا الحالتين، التحدي فكري فلسفي و الصراع فكري فلسفي. بين مدرسة السوق و المدرسة الإجتماعية ذات الأصول الاشتراكية.
القطب الشرقي في مناسبات عديدة،و آخرها لقاء القمة الروسية الأفريقية، ينطلق في التأسيس لمواقفه من المرجعية الأيديولوجية التي أسست لوجوده كقوة جيوسياسية دولية، لكن بعد أن تم تحيينها و تكييفها لشروط العيش المشترك الدولي بمواثيقها و قواعدها. قطب يستقل تقنيا عن السيليكون فاليه و التحكم الأمريكي في الغافا و السويفت.
خلقت لذلك بدائل قللت كثيرا من وقع العقوبات على روسيا إثر دخولها في الحرب مع أوكرانيا. القطب الشرقي يسجل حضوره الدولي ويعلن ان موته كان في الحقيقة خطأ في التقدير و بأنه لا زال حيا تتغير معالمه و سماته و جغرافيا تحالفاته، لكنه حتما يولد من جديد من رحم السنين العجاف و تكسير الإتحاد السوفيتي.
في الفترة التي كان فيها المعسكر الاشتراكي مؤسساتيا منكسر ويعيش أزمة اقتصادية خانقة في عديد بلدان بما فيها روسيا الحالية، في هذه الفترة لم تفرغ الساحة المعرفية و الفكرية من نقاش مستفيض حول البدائل. وما الفورومات الاجتماعية الدولية و الجهوية والوطنية الا دليل على ذلك.
من هذه الفورومات ستولد قوى سياسية ستحقق مفاجءات انتخابية مهمة في كل بلاد أوروبا. بوديموس باسبانيا و اليسار الموحد بفرنسا و عديد تجارب أخرى. غالب الفورومات الإجتماعية كانت تجمع القوى اليسارية التي ربما لم تعد تؤمن بالقطب الشرقي و امكانية عودته للمعترك، ولكن على مستوى الأفكار و الطروحات، نجد في خطابات بوتين الأخيرة بعضا من الروح التي كانت تنشط اللقاءات الإجتماعية الدولية.
لم يحدث بعد تحولات عميقا في التفكير الغربي و تقبل فكرة ان القطب المنافس لم يمت و قادر على المقاومة، وبشكل خطير قد يهدد أمن العالم. لم تنهزم في كل التاريخ دولة نووية واحدة فهل ننتظر من دولة قائدة لحلف الشرق ان تنهزم؟ الرئيس الروسي السابق لم يتأخر يوما دون التصريح بأن هزيمة روسيا تعني في آخر المطاف إلى القنبلة النووية و الحرب الثالثة التي ستغؤق أوروبا و العالم في ما لا يمكن أن تحمد عقباه. الرابح في هذه الحرب خاسر.
يؤدي بنا هذا النسق إلى طرح سؤال شرعي و مشروع. اذا كانت الخارطة الدولية ما تزال قائمة كما هي رغم بعض التراجع لجيل واحد بالنسبة لشرق بنى و شيد و اشتغل و انتج و ينتج. اي قطب شرقي و قطب غربي فيما يشبه الناتو ضد حلف وارسو. أين حلف دول عدم الإنحياز؟ المفروض منطقا ثلاث اقطاب متعادلة القوى اذا بغت طائفة منها على الأخرى تدخلت الطائفة الثالثة لجر المعركة إلى طاولة الحوار باستعمال كل الوسائل السلمية المتاحة. العالم محتاج لطرف ثالث رغم التصريحات التي تخرج حول نوايا البريكس.
البريكس هو التأكيد الرسمي على ميلاد القطب الشرقي تحت حلة جديدة و بجغرافيا جديدة. لكن، طاولة الحوار تبقى فارغة و طرفي الصراع في تجذر متزايد. هذا الطرف الثالث، هذا القطب الثالث يجب أن يكون ثورة تواكب الصحوة القومية الأفريقية وتحافظ على أمن وسلامة الدول من زعزعة الاستقرار داخليا او خارجيا. قطب أولى بداياته تصحيح ظلم تاريخي لحق بافريقيا: الحق في التواجد بمجلس الأمن الدولي بحق الفيتو ايضا. لا يستقيم خطاب دون تصحيح هذا الخطأ التاريخي. لما نتحدث عن افريقيا نتحدث عن شمالها و جنوب الصحراء. دول المغرب الكبير هي دول أفريقية قبل كل شيء. طبعا لدول شمال أفريقيا دور خاص تاريخيا و جغرافيا بكن تبقى اراضي أفريقية تتشارك مع بقية دول افريقيا الماضي الكلنيالي و حاضر الاستضعاف.
ليثبت لدينا أمر مهم. حيث يوجد طرفين، ديموقراطيا لابد من صوت ثالث. اي قانون تأسيس جمعيات في اي دولة تتطلب على الأقل ثلاث اشخاص لتأسيس جمعية لتفادي البلوكاج والصراع. فلذلك العالم و مؤسساته يحتاج لصوت ثالث له مقوماته القيمية. ليست بالضرورة نفس مقومات المعرفة و القيم الغربية و الشرقية و لكن مزيجا من هذا و ذاك فمهما يكن، دول افريقيا مرتبطة بأوروبا و شمال أفريقيا بالشرق الأوسط. و هنا تكتمل الخارطة المفترضة لهذا القطب الواجب وجوده لكن هل هو ممكن؟ أوروبا و افريقيا عبر شمالها في قطب اقتصادي جديد. هل هذا ممكن؟ كل شيء ممكن. لم يكن للإتحاد الأوروبي لأن يوجد وألمانيا قاهرة فرنسا على طاولة الحوار للتأسيس لأكبر اتحاد دولي مستدام بعد الولايات المتحدة الأمريكية. و كانت الوحدة حول مصلحة محددة ” الحديد و الصلب “.
أمام أوروبا و افريقيا والشرق الأوسط فرصة تاريخية لمراجعة الحسابات. أوروبا خاسرة في حرب اوكرانيا بل وقادتها نيكولا ساركوزي الرئيس الفرنسي السابق مثلا، يؤمنون بأن أوروبا هي أرض النزاعات الدامية، أرض العنف و ليست قارة أخرى. الحربان العالميتان، البوسنة و و و . طرحت أمام أوروبا اسئلة محرجة لكنها اختارت شرقها لتتوسع فيه تاركة جنوبها الذي تجمعه به مصالح كبرى. ها هي فرنسا تدفع الثمن في النيجير، و سيستمر النزيف، و اذا دفعت فرنسا الفاتورة دفعت معها أوروبا التي تواجه الحرب بعد مخلفات الجائحة والأزمة البيئية والفاقة الطاقية والنحولات الديموغرافية واللائحة طويلة.
الشرق الأوسط يتوفر على القوة النقدية و الطاقية و نية حقيقية و عمل جاد لتدارك الفوارق الطبقية مع دول أوروبا. شرق يحتاج للحماية الخارجية مهما تقوى عسكريا و اقتصاديا. شرق محتاج لأوروبا لأنها سوق كبيرة و ممون كبير تقنيا على الأقل فضلا عن الأطر و التكوين التقني الذي يتوفر فيها.
افريقيا بشمالها و جنوب الصحراء لا تحتاج لتحليل امكانياتها و عرضها، والتعليل على أهميتها الاستراتيجية لأي حلف عرف كيف يتعامل مع القومية الأفريقية، مع منطق الفعل و منطق الاحترام المتبادل. أهميتها بالخصوص لأوروبا عبر بوابة المتوسط.
قطب آخر ممكن لكن تواجهه صعوبات جمة. منها الصراعات الإقليمية في شمال أفريقيا و الشرق الأوسط. مسألة التطبيع مع اسرائيل، العلاقات المكهربة بين القوى الاستعمارية السابقة والمستعمرات السابقة. ثم إن أوروبا في مجملها في حلف الناتو و لا يمكن أن تغير استراتيجيتها. مجملها ليس كلها. فنلندا و السويد و أوكرانيا لا تزال على باب الناتو. هل يمكن في هذه الحالة، العمل على حل النزاعات الإقليمية بما يخدم الشعوب من استقرار و تنمية و بالموازات التأسيس لقطب محايد بجغرافيا متعددة الأوجه؟
الجغرافيا في عهد الحروب السيبرانية، والذكاء الاصطناعي لا يترك للجغرافيا كثير فضاء. تبقى بعض الثوابت التي لا يمكن دونها المضي قدما نحو حوار الحضارات وبناء الأمن الدولي بعيدا عن الحروب والصدامات. و من هذه الثوابت ان افريقيا هي مستقبل العالم والمغرب بوابته شمالا و مصر بوابته شرقا و اسبانيا و ايطاليا في دور الضغط. الأكيد ستلعب يوما مياه المتوسط دورا جيوستارتيجيا واضح المعالم.