حركة حماس: التفكير بواقعية بعد الاعتداءات الوحشية

في خروج إعلامي على موقع المونيتور الناطق باللغة الإنجليزية يوم 14 ديسمبر 2023 أعلن السيد موسى أبو مرزوق القيادي في حركة حماس الفلسطينية المقيم مع قيادات أخرى في قطر أنه سعيا من الحركة إلى “إنهاء الانقسامات المستمرة بين الفصائل الفلسطينية منذ فترة طويلة”، فإنها على استعداد لأن تكون جزءا من منظمة التحرير الفلسطينية، وأن تحترم مبادئها ومواقفها والتزاماتها، الأمر الذي أوله الموقع الإعلامي المذكور على أنه تلميح لإمكانية اعتراف حركة ح*ما*س بدولة إسرائيل، التي كانت منظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني قد تبادلت معها الاعتراف بموجب اتفاقية أوسلو سنة  1993، ملتزمة في ذات الوقت بنبذ “الأعمال الإرهابية”.

ورغم أن القيادي المذكور قد حاول التراجع عما قاله بالإشارة إلى أن تصريحاته قد أسيئ فهمها، إلا أن صيغة التراجع نفسها حملت في طياتها إقرارا ضمنيا بأن تصريحاته الأولى ليست عفوية، إذ لم يقل بأن حركة ح*ما*س متمسكة بموقفها المبدئي والمعلن بعدم الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، وإنما شدد على عدم اعترافها فقط بشرعية الاحتلال، وبرفضها التنازل عن أي حق من حقوق الشعب الفلسطيني مع التأكيد على استمرار المقاومة حتى التحرير والعودة، مضيفا بأن للإسرائيليين حقوق لا يجب أن تتحقق على حساب الآخرين.

ولا شك في أن ما يظهر من تقلب وتأرجح في مواقف الحركة هو للاحتفاظ بحق التراجع إذا ما لم يحصل التأثير المطلوب من أي خروج إعلامي لقيادييها، فيما يبدو أن حقيقة تصريحات السيد أبو مرزوق وباللغة الإنجليزية مقصودة كمحاولة من بين محاولات جس نبض القوى الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تولت في البداية وبشكل فعلي قيادة الرد الإسرائيلي على عملية طوفان الأقصى بعد ارتباك حكومة نتنياهو في الوهلة الأولى، كاشفة بذلك انحيازها الكلي إلى الرواية الإسرائيلية للأحداث رغم ثبوت الكثير من مغالطاتها، ومصممة على استمرار الدمار في غ*ز*ة باستخدامها لحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي ضد أي قرار بوقف إطلاق النار، وتأكيدها على رفض أي هدنة طويلة الأمد هناك.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تصريحات السيد أبو مرزوق تضمنت رسائل مشفرة موجهة إلى أكثر من جهة عربية وإسلامية. فالحديث عن القبول بدولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967 يمثل نوعا من الالتحاق بالموقف العربي الرسمي كما صاغته مبادرة السلام العربية في بيروت سنة 2002، فضلا عن التماهي مع موقف منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. كما يؤشر على تنصل ضمني من التوجه العام وذي الطبيعة الإعلامية التعبوية فقط، الذي يدعي بموجبه ما يسمى بمحور المقاومة سعيه إلى تحرير فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر.

وحسب ما يرشح من معلومات مستقاة من كواليس قيادة حركة ح*ما*س المقيمة بالدوحة، فإن هذه القيادة تشعر بنوع من الإحباط إزاء تلكؤ “محور المقاومة” في تفعيل ما كان يهدد به على الدوام من وحدة لساحات المواجهة مع إسرائيل، لمنع هذه الأخيرة من الاستفراد بقطاع غ*ز*ة وسكانه كما هو الوضع حاليا، وأنها تعتبر عمليات حزب الله في جنوب لبنان، وهجمات بعض الفصائل الشيعية في العراق ضد القواعد الأمريكية، وكذا ما تقوم به حركة أنصار الله الحوثية في البحر الأحمر مجرد مناوشات استعراضية غير ذات تأثير فعلي في مجريات الصراع المدمر الذي تخوضه كتائب عز*الد*ين القس*ام وسرا*يا القدس ضد الاحتلال الإسرائيلي.

أكثر من ذلك، فإن مصادر المعلومات المشار إليها أعلاه أفادت بأن أوساطا دبلوماسية عربية منغمسة في ملف الوساطة بين الطرفين طلبت من قيادات ح*ما*س التحلي بالواقعية في أطروحاتها السياسية، والابتعاد عن المزايدات الإعلامية، والتوقف عن الإشادة بتلك المناوشات، التي لا تغير أي شيء في مجريات الصراع سوى أنها تمثل إحراجا كبيرا لبعض الدول العربية، وخاصة المملكة العربية السعودية، التي تقوم بدور فعال على الصعيد الدبلوماسي لوقف المعارك، وتأمين الإغاثة لسكان القطاع، وكذا مصر التي تتأثر بشكل سلبي مداخيلها من رسوم عبور  قناة السويس جراء أي إرباك لحرية الملاحة عند باب المندب في مدخل البحر الأحمر.

ولهذا ليس مستغربا أن يرى البعض في تصريحات السيد أبو مرزوق طلبا غير مباشر لطوق نجاة فلسطيني وعربي لحركته التي وجدت نفسها وسط أمواج عاتية أكبر من إمكانياتها بكثير، خاصة وأنها جاءت كتتمة لتصريحات السيد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة ح*ما*س قبلها بيوم واحد، والتي أعلن فيها انفتاح الحركة على مناقشة أي مبادرة تفضي إلى وقف “العدوان الإسرا*ئيلي على غ*ز*ة” وتفتح الباب “لترتيب البيت الفلسطيني على مستوى الضفة الغربية والقطاع”، علما بأن كلا التصريحين يجدان سندهما السياسي والقانوني فيما سمي بوثيقة المبادئ والسياسات التي أصدرتها حركة ح*ما*س في مايو سنة

2 / 2

2017، والتي رغم عدم اعترافها صراحة بوجود دولة إسرائيل، وعدم إعلان تأييدها لحل الدولتين تضمنت قبول حماس لتأسيس دولة فلسطينية، وعاصمتها القدس الشرقية ضمن حدود ما قبل حرب الأيام الستة سنة 1967.

والواضح من خلال تتبع ما يصدر من مواقف عن حركة ح*ما*س أنها اعتادت في الأعوام الأخيرة التقلب السريع في المواقف بين إعلان القبول بشيء ما ثم التراجع عنه، وذلك منذ أن شهدت المنطقة العربية انحسارا كبيرا في شعبية تيارات الإسلام السياسي السني الداعمة لها إما نتيجة ضربات أمنية موجعة تلقتها هذه التيارات أو انتكاسة انتخابية تعرضت لها بسبب فشلها في تسيير الشؤون المحلية حيث تولت تدبيرها. وكما هو معلوم، فإن الحركة ترتبط ارتباطا فكريا وعضويا بهذه التيارات، وتتأثر بكل ما يحصل لها.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة