بعد أزيد من تسعة أشهر من القصف المروع لسلاح الجو الإسرائيلي على كل قطاع غزة الذي لا تتجاوز مساحته 360 كلم مربع لم تستطع تل أبيب حسم المعركة بصفة نهائية، بل لم تحقق لحد الآن أيا من الأهداف المعلنة لحملتها الدموية ردا على عملية طوفان الأقصى، تلك الأهداف المتمثلة في تحرير ما تبقى من رهائن أحياء، واستعادة جثامين الموتى منهم، فضلا عن تدمير البنية التحتية العسكرية والأمنية والإدارية لحركة حماس، وإيجاد بديل مقبول لإدارة القطاع يحظى بمباركة عربية أيضا.
إن هذا المعطى الميداني، الذي لم يسفر سوى عن الدمار والخراب والقتل العشوائي الجنوني والتهجير المتواصل لساكنة القطاع من بقعة لأخرى دفع بعض المهتمين بدراسات الشؤون العسكرية والاستراتيجية إلى إعادة طرح تساؤلات عديدة حول مدى نجاعة وفعالية سلاح الجو بكافة مكوناته من طائرات حربية وطائرات مسيرة وصواريخ باليستية متنوعة الاختصاصات ومتعددة المدى في حسم المعارك، وإرغام الطرف الذي لا يمتلكها أو لا يمتلك بعضها على الاستسلام، وإلقاء السلاح ووقف أي مقاومة.
وتكمن مشروعية هذه التساؤلات في أن هذا المعطى جاء ليفند بعض المسلمات العسكرية التي ترسخت في أذهان الكثير من المهتمين، ومفادها أن القدرات الجوية والفضائية بكثافة النيران التي تستخدمها قادرة على التأثير بفعالية في استراتيجية الطرف الذي تستهدفه، وفي مسار أحداث الصراعات ؛ الأمر الذي يجعل من سلاح الجو عتادا ناجعا بإمكانه تأمين تفوق استراتيجي كاسح في المعارك، وإنهاء المواجهات العسكرية بسرعة، وبضحايا بشرية وخسائر مادية أقل من تلك التي تخلفها الحروب البرية، وما يستخدم فيها من عتاد.
وقد توطدت هذه المسلمة مرتدية هالة علمية وإعلامية تكاد ترفعها إلى مرتبة القداسة أحيانا نتيجة الدور المحوري الذي لعبه سلاح الجو الأمريكي خلال حرب الخليج الثانية، إذ شكل استخدامه بكثافة عاملا رئيسيا في إرغام القوات العراقية في عهد الرئيس صدام حسين على الانسحاب من الكويت التي غزتها سنة 1990، إضافة إلى الدور المماثل لطيران الحلف الأطلسي بقيادة أمريكا ضد القوات الصربية، وقوات الجبل الأسود خلال الحرب في كوسوفو سنة 1999.
إن هذا الدور هو الذي جعل المؤرخ العسكري البريطاني الراحل السير جون باتريك كيغان John Patrick Keegan يكتب مؤكدا على أن استسلام الرئيس الصربي سلوبودان ميليزوفيتشفي يونيو 1999 يعتبر أكبر دليل على أن النصر في الحرب يمكن إحرازه باستخدام القوة الجوية وحدها، خصوصا وأن هذه القوة استفادت كثيرا ليس فقط مما لحق آلياتها من تطور تكنولوجي رهيب كدخول الطائرات الشبح للخدمة، وإنما غدت توظف لصالح دقة التصويب نحو أهدافها ما وصل إليه التقدم في مجال الأقمار الصناعية، وتكنولوجيا العالم السيبراني CiberneticsTecnology.
ومما لاشك فيه، فإن السير جون باتريك كيغان كغيره من المتحمسين لأهمية وفعالية سلاح الجو واعتباره آنذاك أبرز أسلحة المستقبل القادرة على كسر إرادة ومقاومة أي خصم تستخدم ضده يرتكز في يقينه هذا على تجربة استخدام هذا السلاح في الحروب بين الجيوش النظامية فقط، متجاهلا على سبيل المثال أن القوة الجوية الأمريكية بكل ترسانتها الضخمة لم تستطع أن تؤمن القضاء على مقاتلي حركة طالبان في أفغانستان، الذين تمكنت من إزاحتهم من السلطة لفترة، ولكنها عادت وسلمت بقوتهم، ولم تفكر حتى في التشويش عليهم عندما استعادوا الحكم مرة أخرى.
ولذلك، فإن تفنيد المسلمة التي حاولت ترسيخ فكرة القدرة الكبيرة لسلاح الجو وحده على حسم المعارك ينبع من أن وسائل وآليات هذا السلاح نفسه قد تطورت كثيرا، خاصة بعد التطور المذهل الذي عرفه قطاع الطائرات الصغيرة المسيرة (الدرونز)، وأن تصنيع واستخدام بعض آليات سلاح الجو لم يعد حكرا على القوات المسلحة النظامية للدول فقط، وإنما بات تصنيعها والتفنن في استخدامها بمقدور العديد من الحركات التحررية والانفصالية والمليشيات المسلحة الناشطة منها سياسي أو تلك المنضوية تحت لواء الإرهاب والجريمة المنظمة، وذلك لأنها أقل كلفة وأقل تعقيدا من الناحية العلمية والتكنولوجية.
في هذا السياق ينبغي أن نشير إلى أن حركة حماس عشيةشن عملية طوفان الأقصى استخدمت ببراعة وإتقان ضربات جوية بصواريخ بدائية مطورة محليا كشفت ضعف ومحدودية الوسائل التقنية التي تمتلكها إسرائيل سواء للاستشعار، أو للإنذار المبكر والتصدي وخاصة منظومة القبة الحديدية، مع العلم بأن تلك الضربات لم تكن سوى ضربات للتمويه على عملية الاقتحام الأرضي للمستوطنات المحاذية لقطاع غزة.
وعلى خطى حركة حماس في الاستفادة من الآليات غير المعقدة التصنيع في أسلحة الجو استطاعت حركة أنصار الله الحوثية في اليمن أن تشوش كثيرا على الملاحة البحرية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر تضامنا مع قطاع غزة، ولم تؤثرالهجمات الجوية للقوات الأمريكية والبريطانية التي تعرضت وما تزال تتعرض لها على قدراتها في إزعاج الملاحة هناك، وهو الإزعاج الذي أدى حسب معطيات شركة ميرسك للشحن البحري إلى خفض نشاط مرور الحاويات في المنطقة بأزيد من 20% خلال النصف الأول من سنة 2024.
الجدير بالذكر أن الحوثيين الذين استولوا على السلطة عنوة في اليمن بعد طرد الحكومة الشرعية من العاصمة صنعاء لم يتأثروا، ومنذ سنة 2015 بالضربات الجوية المكثفة التي شنتها عليهم قوات التحالف العربي في البداية تحت مسمى “عاصفة الحزم” وفيما بعد بمسمى “إعادة الأمل”.
على أساس هذه المعطيات يبدو أن المجمعات الصناعية الكبرى في العالم باتت تدرك أن هنالك حدودا لمدى نجاعة سلاح الجو بكل ترسانته المتنوعة، ولذلك هي تسابق الزمن دومالتحديث وتطوير كافة أجهزة ومعدات هذه الترسانة لجعلها أكثر فعالية وكفاءة، وأقل كلفة انطلاقا من قاعدة ذهبية تهتدي بها هذه المجمعات، ومفادها أن حروب الغد لاتكسب بأسلحة الأمس.