سوريا المنسية..

إن الأزمة السورية الناجمة عن اندلاع انتفاضة شعبية ضد نظام الرئيس بشار الأسد، والتي تحولت نتيجة مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية إلى حرب أهلية من جهة، وحولت سوريا إلى ساحة لصراعات دولية وإقليمية من جهة أخرى ظلت عصية على الحسم العسكري لهذا الطرف أو ذاك من القوى المتصارعة، وإن تبدلت فيها موازين القوى، وتغيرت فيها خرائط امتداد نفوذ هذا الطرف أو ذاك بفعل تدخل العديد من القوى الأجنبية.

وقد تمدد هذا الاستعصاء ليشمل أيضا الحلول السياسية، التي يبدو أن الأزمة ليست ناضجة بعد لتقبلها، وذلك رغم صدور العديد من القرارات المتخذة على الصعيد العربي أو في إطار منظمة الأمم المتحدة وآخرها وأكثر قوة من الناحية القانونية قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 الصادر في 18 دجنبر 2015، وما انبثق عنه من مبادرات واستحدثه من منصات وجلسات للحوار تنقلت بين مدن وعواصم متعددة بدون تحقيق أي اختراق إيجابي يذكر.

وفي الوقت الذي كان ينتظر أن يلعب طول مدة الأزمة التي تدخل عامها الرابع عشر دورا كبيرا في تلطيف الأجواء، وفي تليين مواقف القوى الداخلية المتناحرة سواء أكانت قوات النظام أو الفصائل الإسلامية والكردية، فإنه رفع من منسوب التعنت لدى هذه القوى، وضاعف من حدة التشنج في مواقفها والتطرف في رؤيتها للأوضاع، ولإمكانية تسويتها، وذلك بسبب تركيز كل طرف فقط على تحقيق مصالحه بعيدا عن أي سعي لإيجاد ولو الحد الأدنى من القواسم المشتركة مع غيره من الأطراف المحلية.

وتكمن أسباب هذا الوضع في تأثر الأزمة السورية بتصاعد حدة الصراعات الدولية والإقليمية المحيطة بها، والتي كانت سوريا نفسها مسرحا مباشرا لبعضها. فقد بدأ هذا التأثر مع الحرب الروسية في أوكرانيا ووقوف الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ضدها ؛ الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على سوريا من الناحية العسكرية والسياسية.

*عسكريا من خلال تكثيف الدعم لفصائل المعارضة من جانب محتضنيها، وعبر قيام واشنطن بتقوية وجودها العسكري المباشر في القواعد التي تسيطر عليها شرق نهر الفرات، ردا على قوة النفوذ الروسي وما عرفته قواعده من توسع فوق التراب السوري وأبرزها قاعدة احميميم الجوية، وقاعدة طرطوس البحرية.

*سياسيا من خلال توقف أعمال اللجنة الدستورية المنبثقة عن قرار مجلس الأمن 2254، التي استطاع المبعوث الأممي جير بيدرسون Geir Pederson  تأمين انعقاد عدة جلسات لها. ويعزى التوقف ليس فقط إلى تمترس ممثلي النظام خلف فكرة “الأسد هو الخيار الأوحد”، وإنما أساسا إلى رفض روسيا مواصلة انعقاد جلسات هذه اللجنة في مدينة جنيف بسويسرا، التي ترى موسكو أنها لم تعد بلدا محايدا بسبب انحيازها إلى الرؤية الأمريكية والغربية للحرب في أوكرانيا.

وبديهي في ظل هذا الركود السياسي، والتوازن العسكري الذي يمنع استعادة الوحدة الترابية للبلاد أن يتوالى انهيار ما تبقى من مقومات الاقتصاد في سوريا بشكل سارع في ارتفاع مستويات نسب الفقر، التي ذكرت آخر تقارير الأمم المتحدة أن 90% من الشعب السوري يرزح تحت خط الفقر، مع ما لذلك من دور في تدهور منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية، وتنامي ظواهر الفساد والتهريب وتعاطي المخدرات والسرقة والاختطاف، مما زاد في قتامة الأوضاع، وتفاقم مأساة الشعب السوري ومعاناته، وتعقد أزمته، وانسداد آفاق أي أمل في تسويتها في الأمد المنظور.

وإضافة إلى تنامي وعي عدد من الدول العربية الفاعلة بخطورة إبقاء مستقبل سوريا رهينة لتجاذبات قوى إقليمية ودولية تحركها أساسا متطلبات مصالحها الاستراتيجية، فإن هذه الأوضاع المأساوية للشعب السوري، وما خلفته من أضرار أمنية واقتصادية في جوارها العربي كانت من بين الأسباب التي عجلت ببلورة قرار عربي جماعي تقريبا بشأن استرداد سوريا لعضويتها الكاملة في جامعة الدول العربية.

وكما هو معلوم، فإن ذلك هو ما حصل يوم 7 مايو سنة 2023 بعد أن تعهدت دمشق في الاجتماع الذي عقد في فاتح مايو 2023 بالعاصمة الأردنية عمان بين وزير خارجيتها ونظراءه من السعودية ومصر والعراق والأردن ببنود ما سمي آنذاك بمبادرة “الخطوة بخطوة” وأهمها التعاون في مكافحة تهريب المخدرات وإنتاجها، وتسهيل العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين.

لقد كان الأمل معقودا على أن تكون عودة دمشق إلى الحضن العربي فرصة لإثبات جديتها في تنفيذ تعهداتها، وهو الأمر الذي لم يحصل كما يجب ليقابله من الجانب العربي بعض العزوف عن تنفيذ الخطوات المطلوبة لتسريع فك طوق العزلة عن سوريا، وكذا التلكؤ في مخاطبة واشنطن لتخفيف حدة العقوبات المفروضة عليها بما يسمح بانطلاق  عملية إعادة إعمار سوريا بدءا مما سمي بمشاريع التعافي المبكر حسب  قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2642  الصادر في 12 يوليوز 20222.

وقد جاءت عملية طوفان الأقصى والحرب المدمرة على قطاع غزة لتقبر ما تبقى من تلك الآمال التي ولدتها عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وذلك بسبب تحول اهتمام العالم بأسره سياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا وإنسانيا نحو القضية الفلسطينية والمجازر الرهيبة المرتكبة بحق المدنيين في رد الفعل الثأري لإسرائيل، مما أعاد الوضع السوري ومآسيه إلى غياهب النسيان.

ومما لاشك فيه، فإن انشغال البلدان العربية الدائم بالمأساة الفلسطينية، نظرا لتخوف معظمها من تبعات هذه المأساة، لم يترك لها ترف البحث في مساعدة سوريا ولو من خلال الالتفاف قليلا على العقوبات الأمريكية، بل إن حاجتها إلى الإدارة الأمريكية لكبح الاندفاع الإسرائيلي المحموم ضد سكان قطاع غزة، فرض عليها، بما فيها الأنظمة التي تتوهم أن لها نفسا ثوريا، إبداء الحرص على التقيد حرفيا بفحوى قانون قيصر بغية تفادي السقوط تحت تبعاته.

فهل تستطيع القمة العربية العادية التي تنعقد في ظل ظروف إقليمية ودولية غير عادية بالمنامة البحرينية يوم 16 مايو الجاري جلب الأنظار مجددا إلى الوضع السوري؟

يقول المثل المصري: يا خبر النهار دا بفلوس بكرة ببلاش.