سوريا في مفترق طرق…

رغم تعدد التواجد العسكري الأجنبي على الأراضي السورية، وتباين أهدافه وما يتخلله من مناوشات مسلحة متفرقة بين الفينة والأخرى، فإن ما يشد انتباه واهتمام الأوساط الدبلوماسية ومختلف وسائل الإعلام الدولية بخصوص الأزمة السورية في الآونة الأخيرة هي الحركة الدبلوماسية النشطة والمكثفة التي تقوم بها جهات متعددة عربية ودولية يبدو أنها متفائلة أكثر من أي وقت مضى بأن المخاض الذي دخلته هذه الأزمة قد يسفر قريبا عن حدوث تطور نوعي وازن في اتجاه تسويتها، أو على الأقل وضعها على سكة الحل السلمي المنشود.

في هذا السياق تم تسجيل عدد من الاتصالات واللقاءات الدبلوماسية بين أكثر من جهة، وفي أكثر من اتجاه، منذ الإعلان عن اللقاء الثلاثي الذي احتضنته موسكو يوم 28 ديسمبر 2022 بين وزراء الدفاع ورؤساء أجهزة المخابرات في كل من روسيا وسوريا وتركيا لأول مرة منذ اندلاع الأزمة السورية وتدخل كل من أنقرة وموسكو فيها عسكريا وأمنيا وسياسيا، من أجل تحقيق مصالح وغايات متناقضة.

والملاحظ أن أهداف تلك الاتصالات واللقاءات كانت مختلفة بين من تمت لشرح آخر التطورات، وتلك التي حاولت استشراف الآفاق، فضلا عن الاتصالات الباحثة عن القيام بدور ما في تسهيل الوصول إلى النتيجة التي يدعي الجميع أنها ستساعد كافة مكونات الشعب السوري على الخروج من معاناتها في الداخل والخارج على حد سواء، وإعادة البلاد إلى وضعها الطبيعي، ما لم تحدث أي تطورات سلبية بسبب العراقيل التي يمكن أن تضعها في طريق التقارب المنشود أطراف أخرى مهتمة بالملف السوري، خشية أن يحصل هذا التقارب من دونها وعلى حساب مصالحها.

فإذا كان التواصل على أكثر من صعيد بين موسكو وأنقرة غير مستغرب في ضوء سعي العاصمتين معا إلى تذليل العقبات التي تعترض مسار التقارب المأمول بين تركيا وسوريا بغية تعبيد الطريق للقاءات بينهما على مستوى سياسي رفيع، فإن المستجد الإقليمي المتمثل في إعادة العلاقات الدبلوماسية الإيرانية السعودية بوساطة صينية هو الحدث الذي استرعى الانتباه أكثر لجهة انعكاسه الإيجابي المباشر والسريع على علاقات دمشق بمعظم دول محيطها العربي، الذي بلغ ذروته باستئناف اتصالاتها السياسية المباشرة مع السعودية الباحثة عن لم حقيقي لشمل العرب بغية تأمين نجاح القمة العربية المقبلة التي ستستضيفها في 19 مايو 2023.

إن أهمية هذا المستجد تبدو واضحة أيضا في إفساحه المجال للسلطات السورية لبدء فك طوق العزلة العربية عنها، والمبادرة بخطوات انفتاحية في اتجاه أكثر من عاصمة عربية، مع الحفاظ على التنسيق الكامل بينها وبين طهران التي تحرص على وضعها في صورة كل ما تجريه من اتصالات.

ويعود حرص دمشق على التواصل مع طهران مباشرة بعد هذه التحركات المكثفة إلى أهمية دور إيران ودور ميليشيات حزب الله اللبناني التابعة لها على الساحة السورية منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية ضد النظام سنة 2011، والمتمثل في الدعم اللامحدود الذي قدمته وما تزال للنظام السوري من الناحية العسكرية، وكذا من الناحية الاقتصادية والمالية للتخفيف قليلا من التداعيات الاجتماعية الخطيرة للعقوبات الدولية وخاصة الأمريكية المفروضة على سوريا، المنذرة بانهيار تام لما تبقى من مقومات الاقتصاد السوري.

والواضح في هذا الإطار أن إصرار سوريا على وضع إيران في صورة التطورات الجارية يأتي من رغبتها في الحيلولة دون أن يشعر النظام الإيراني بأن ما يجري هو استبعاد لدوره في المنطقة أو تقزيم له رغم ان ذلك يتعارض إلى حد كبير مع الهواجس التي أملت التحرك العربي المكثف نحو دمشق، وعلى مستويات رفيعة وأهمها:

أولا، محاولة استغلال تذبذب الموقف الأمريكي من نظام الرئيس الأسد بين الرغبة في إطاحته، وعدم السعي جديا لتنفيذ تلك الرغبة،  الأمر الذي اعتبره البعض عدم ممانعة أمريكية في التعامل مع هذا النظام في حدود.

ثانيا، مواصلة خطوات إعادة ربط سوريا بمحيطها العربي، على أمل منع بقائها كورقة للمساومة في يد قوى دولية وإقليمية.

ورغم أجواء التفاؤل التي تشيعها هذه الحركة الدبلوماسية المكثفة والنشطة، فإن الجميع يشارك فيها بحذر، وبخطوات مدروسة مخافة الاصطدام بالاعتراضات الموجودة في طريق هذه الحركة الممثلة في:

أولا، وجود تحرك مضاد من قوى دولية وإقليمية وأطراف محلية لا مصلحة لها في فك عزلة النظام السوري، ولن تقبل بالمساس بما تعتبره مكتسباتها من انغماسها في الأزمة السورية. ويأتي في مقدمة هؤلاء واشنطن التي تلوح بقانون قيصر وتشهره في وجه كل من يعارضها في الساحة السورية، وكذا حلفاؤها من أكراد سوريا، الذين يديرون مناطقهم بشكل ذاتي، ويرفضون العودة تحت سلطة دمشق إلا بعد تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 2254 وبشروط تضمن وضعهم الجديد، وتمنحهم صلاحيات حكم ذاتي واسعة مماثلة لصلاحيات أكراد العراق.

ثانيا، التوجس الغربي من قيام موسكو والصين باستغلال رعايتهما لخطوات التقارب الجارية بين عدد من دول المنطقة لتسويق صورة إيجابية عنهما كدولتين ساعيتين إلى استتباب الأمن والسلام، خلافا للمساعي الغربية الرامية إلى شيطنتهما. ولا شك بأن ترحيب الاتحاد الأوروبي وإدارة بايدن مؤخرا بتقرير منظمة حظر الأسلحة الكيماوية الذي يتهم النظام السوري باستخدام هذه الأسلحة في منطقة دوما سنة 2018، ويؤكد على محاسبته يمثل إحدى خطوات عرقلة المساعي الرامية لتأهيل النظام السوري وعودته إلى المجتمع الدولي.

فهل تتمكن الدول الراغبة في عودة سوريا إلى وضعها الطبيعي في المنطقة من تجاوز هذه الاعتراضات؟

إن غدا لناظره قريب، وأول مواعيد هذا الغد القريب هو قمة الرياض القادمة.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة