فرنسا في الشرق الأوسط: ماكرون وعقدة نابليون

منحت أغلبية الشعب الفرنسي ولايتين رئاسيتين متتاليتين للرئيس إيمانويل ماكرون ليكون أصغر رئيس يدخل قصر الإليزيه في عهد الجمهورية الخامسة، وذلك بعد اقتناعها ببرنامجه الانتخابي، الذي تضمن، إضافة إلى التعهد بإجراء إصلاحات داخلية كبيرة، وعودا باستعادة هيبة فرنسا الخارجية وقوة نفوذها عبر العالم. وبلا شك، فإن الحكم على نجاح الإصلاحات الداخلية هو حق مكفول للشعب الفرنسي وحده ؛ فيما تحليل سياسة الرئيس ماكرون الخارجية وتقييمها أمر متاح لكل المهتمين بالعلاقات الدولية فرنسيين كانوا أم أجانب، وهو ما يسعى إليه بإيجاز هذا المقال بالنسبة لتعاطي باريس مع بعض القضايا العربية.

إن أولى الملاحظات المسجلة في هذا الصدد تكمن في أن الرؤساء الذين تعاقبوا على قصر الإليزيه في الستين سنة الماضية، ظلوا جميعا رغم اختلافاتهم الفكرية والسياسية وأحيانا الشخصية ملتزمين في العلاقات وفي التفاعل مع بلدان العالم العربي، ومع قضاياه المصيرية بمجموعة مبادئ يمكن اعتبارها مع بعض التحفظ كثوابت أساسية لدبلوماسية فرنسا العربية، وأهمها:

*الإصرار والحرص على التعامل بنوع من التميز عن شركاء باريس الغربيين، وببعض الاستقلالية في اتخاذ القرارات في مجموعة من المواقف والمبادرات المرتبطة بالأوضاع العربية، وذلك منذ عهد الرئيس شارل ديغول.

*التمييز في النظرة والتعامل أيضا بين الدول العربية في شمال إفريقيا التي خضعت للاستعمار الفرنسي مباشرة أو تحت مسمى الحماية، والتي ما يزال حنين دوائر سياسية فرنسية يراها حديقة خلفية لباريس، وبين بقية الدول العربية المشرقية.

*التركيز بشكل كبير على البعد الاقتصادي والتجاري وغض الطرف عن قضايا حقوق الإنسان في العلاقات مع دول الخليج مقابل الانغماس سياسيا ودبلوماسيا في قضايا الشرق الأوسط، استمرارا لانشغالها مبكرا بالمسألة اليهودية لتوظيفها في سياستها الاستعمارية، والتورط فيما نجم عن تلك المسألة من صراع عربي إسرائيلي بمختلف مراحله وجبهاته المتعددة.

فخلال هذا الصراع الذي ما يزال متواصلا منذ اندلاعه ظلت باريس حريصة على إظهار نوع من الحماس بالسعي إلى إيجاد تسوية لكافة أشكاله وفق قرارات الشرعية الدولية، ولكن من دون فرض أي ضغوط ذات طبيعة عقابية على الجانب الإسرائيلي، بل فقط بمحاولة إقناعه بأهمية التسوية الدبلوماسية، وإغرائه بتلبية ما يدعيه عن احتياجاته الأمنية، وتسريع دمجه في النسيج الاقتصادي والتجاري للمنطقة.

ومن تتبع التعامل الفرنسي مع هذا الصراع، ومع تداعياته يبدو جليا وجود تفاوتات جمة في مستوى الحماس الفرنسي، وفي مدى صدقه اختلفت من رئيس لآخر ممن تعاقبوا على قصر الإليزيه بين من وصل في حماسه إلى حد الاصطدام مع تل أبيب وواشنطن، التي احتكرت مسار التسوية في المنطقة، وبين من اقتصر نشاطه على تصدير الانطباع بأنه يسعى إلى التسوية دون أن يعمل جديا على إنجازها ولو بالتدريج.

لقد جسد الرئيس الراحل جاك شيراك النموذج الأول كما ظهر خلال معارضته القوية للغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، فيما يعتبر الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون أحسن تجسيد للنموذج الثاني، إذ رغم اعتقاده بأن بث روح متوهجة جديدة في السياسة الخارجية الفرنسية بما ينعكس إيجابا على استعادة هيبتها الدولية يتطلب اهتماما أكبر بقضايا الشرق الأوسط، وتكثيف إرسال الإشارات عن كونها تحظى بالأولوية لديه، إلا أن تحركاته الدبلوماسية وخرجاته الإعلامية لم تتجاوز إطار تكريس الانطباع بوجود اهتمام فرنسي جاد بقضايا المنطقة  دون اتخاذ إجراءات ومواقف عملية ومؤثرة.

في هذا السياق يدخل تعامله مع انفجار مرفإ بيروت يوم الرابع من غشت/أغسطس 2020، حيث سارع قبل العديد من السياسيين اللبنانيين أنفسهم إلى زيارة موقع الانفجار مبديا تضامنه مع الشعب اللبناني، واعدا بإعادة إعمار المرفإ، وبمساعدة لبنان على تجاوز مشاكله الاقتصادية ومتاعبه الأمنية، ومتوعدا بمحاسبة كل من يقف وراء الانفجار أيا كانت هويته، وذلك بأسلوب أعاد للأذهان ما تفتق عنه دهاء نابليون بونابرت عند بدء حملته على مصر سنة 1798 من ادعاء اعتناق الإسلام عن إيمان، وتصوير حملته كدعم لسلطان صديقه الخليفة العثماني المهدد داخليا من المماليك، وخارجيا من  الأباطرة المسيحيين.

وكما أسقط نابليون قناعه “الإسلامي” الذي استخدمه للتضليل بمجرد فشل جنوده في اقتحام أسوار القدس، فإن ماكرون سرعان ما أهمل وعوده المعسولة للبنانيين، فلا هو ساعد في إعادة الإعمار، ولا هو أسهم في استعادة الاستقرار، وإنما اكتفى بالفرقعة الإعلامية التي رافقت زيارتيه المتتاليتين لبيروت، وبالتفرج على لبنان يرزح تحت نير خلافات طوائفه يتجرع شعبه وحده مرارة معاناته الاقتصادية والمالية والاجتماعية، واستمرار تدهور وضعه الأمني.

مقابل ذلك، ورغم اختلاف الزمان والمكان وتباين الإمكانيات والمعطيات بين عهد نابليون والفترة الرئاسية لماكرون، فإن هذا الأخير أثبت أنه هو أيضا ما يزال ملتزما بالدفاع عن القيم الاستعمارية الفرنسية كما صيغت قبله بقرون، والتي ترى أن

2 / 2

المصالح الاستراتيجية العليا لفرنسا وللغرب عموما تقتضي تأبيد منع التواصل الجغرافي بين المشرق العربي وامتداده في شمال إفريقيا من خلال زرع جسم غريب في قلب المنطقة ورعايته.

فإذا كان نابليون، عندما تعثر غزوه لفلسطين، قد رمى البذور الأولى لهذا الجسم الفاصل في قلب العالم العربي بإشهاره ورقة إيجاد حل للمسألة اليهودية من خلال النداء الذي وجهه إلى الإسرائيليين الذي وصفهم ب”الشعب الفريد الذي لم تستطع قوى الغزو والطغيان سلبه هويته الدينية والقومية، وإن كانت قد سلبته أرض أجداده”، فإن ماكرون عبر عن إيمانه العميق بذلك الجسم وبالإيديولوجية التي يرتكز عليها، واستعداده للمساهمة في الدفاع عنه بدون تحفظ، وذلك في المواقف الأولى التي اتخذها مباشرة بعد اندلاع عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر 2023.

لهذا لم يكن مستغربا أن يسارع فور علمه بما وقع في مستوطنات غلاف غزة إلى القيام بزيارة تضامنية لإسرائيل، والتأكيد على حقها المطلق في الدفاع عن نفسها، وفتح مخازن السلاح الفرنسي لها، وأن يسن سابقة تاريخية في عهد الجمهورية الخامسة بمنع خروج مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ومنددة بإسرائيل (ألغاها القضاء الإداري فيما بعد)، داعيا أكثر من ذلك إلى توسيع اختصاصات التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب لتشمل محاربة حركة حماس، وكأنه يستعير نفس كلمات نابليون في ندائه للإسرائيليين عندما قال لهم: “إن الأمة الفرنسية التي لا تتاجر بالرجال والأوطان كما فعل غيرها تدعوكم إلى إرثكم بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء”.

صحيح أن الرئيس ماكرون حاول استدراك هذا الانحياز الأعمى للجانب الإسرائيلي بعد استشعاره بأنه سيفقد القليل مما تبقى من نفوذ معنوي لباريس في العالم العربي، ولكنه تناسى أن تقييم أي سياسة خارجية لبلد ما يتم على أساس طبعها لا تطبعها.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة