قمة الرياض ال32: محاولة لإحياء الجسم العربي بترياق الاقتصاد

في سياق سعيها إلى تحقيق أهداف رؤيتها الاقتصادية لسنة 2030 المتمثلة في مضاعفة دخل البلاد وتنويع مصادره، وتحقيق تنمية شاملة ومستدامة تنعكس رخاء وازدهارا على كافة مكونات مجتمعاتها، وتسمح لها بتبوؤ مكانة اقتصادية رائدة في محيطها الإقليمي، أدركت المملكة العربية السعودية أن الأمر لا يتطلب فقط تعبئة كافة الموارد المادية والبشرية وتطويرها لتغدو قوة إنتاج فعالة، وإنما ينبغي أن تواكبه سياسة خارجية نشطة تخدم هذا الغرض السامي، بما تتيحه من إمكانيات للانفتاح على كل التجارب الدولية الناجحة في هذا المضمار للاستعانة بها والاستفادة منها.

ولهذه الغاية، يلاحظ منذ انحسار جائحة كوفيد 19 أن الرياض تقود سياسة خارجية نشطة لا تنحصر في حماية مصالحها وحدها، وإنما تسعى إلى بناء شراكات استراتيجية واسعة النطاق في الشرق والغرب على حد سواء غير مقتصرة على شركائها التقليديين فقط، كما تستهدف تخفيض حدة التوتر من حولها بالمساهمة في تسوية العديد من الخلافات المنغمسة فيها مباشرة أو المنشغلة بها لتحويل النفقات الباهظة التي تتطلبها اليقظة الأمنية إلى مجالات البناء والتنمية، اقتناعا منها بأنه لا يمكن تحقيق الرخاء في منطقة يسودها التوتر والاضطراب، وأن الاستقرار يتيح نمو أسواق التجارة، ويسمح بتنقل رؤوس الأموال، بما يحقق الفائدة للجميع.

وبالفعل، فإن هذا النشاط الدبلوماسي المكثف المتسم بالواقعية مكن السعودية من البدء في طي عدد من الملفات الشائكة والمؤرقة كان أبرزها قبل مدة هو استعادة العلاقات مع تركيا بشكل طبيعي بعيدا عن الابتزاز الذي مارسته أنقرة ضد الرياض، فيما تجسد آخرها في محاولة خفض التوتر مع إيران بإعادة العلاقات الدبلوماسية معها، والاستعداد لبناء الثقة المتبادلة على أمل أن يشكل هذا الحدث دفعة قوية لتسوية ملف اليمن، الذي تريد الرياض رؤية نهاية للنفق الموجود فيه، بما يخدم مصلحة الشعب اليمني ويحفظ وحدته الترابية.

وإذا ما أضفنا إلى ما سبق الدور الإنساني الذي حاولت الرياض لعبه في تبادل الأسرى في الحرب الروسية الأوكرانية، ومساهمتها في تقليص الانعكاسات السلبية لتلك الحرب على صعيد أزمة الغذاء العالمية، والأدوار الاقتصادية الأولى التي تلعبها على صعيد توازن سوق النفط العالمي، وداخل مجموعة العشرين، فضلا عن خطواتها الانفتاحية الدقيقة والمحسوبة على كافة دول الشرق الأوسط غير العربية بدون تهافت، يمكن الاستنتاج بأن الرياض ستفرض نفسها رقما وازنا في المعادلات الإقليمية، وصوتا مسموعا في مختلف المحافل والمنتديات السياسية والاقتصادية العالمية.

وإدراكا من السعودية بأن استمرار توهج هذا التوجه الذي يعيد التأكيد مجددا على أنها سيدة قرارها، ويساهم في ترسيخ الأدوار التي تضطلع بها على الساحة الدولية، والمبادرات التي تتبناها على الصعيد الإقليمي يتطلب حشد مواقف عربية داعمة ومساندة، فإنها تبدو جادة في مساعيها لتأمين هذا الدعم العربي خلال القمة العربية الدورية الثانية والثلاثين، التي ستحتضنها يوم 19 مايو 2023.

وخلافا للجزائر التي حاولت خلال القمة ال 31 تحقيق أهداف شخصية وعلى حساب الجار والأمة معا، فإن الرياض استبقت التئام لقاء القادة العرب القادم باتخاذ مجموعة خطوات تروم تنقية الأجواء العربية و”لم الشمل” فعلا تمهيدا لاستقبال القمة، أهمها:

*انفتاح متعقل على النظام السوري يساعد هذا الأخير على استعادة مقعده في جامعة الدول العربية، ويحثه في ذات الوقت على إجراء المصالحة الوطنية وفق قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة بملف الأزمة السورية. كل ذلك مرفق بعمل متواصل في الكواليس الدبلوماسية لتذليل آخر الاعتراضات على هذه الخطوة.

*الإيعاز للأمين العام لجامعة الدول العربية بالتأكيد في تصريحاته بشأن القمة المرتقبة على أنها قمة بمحتوى اقتصادي صرف لتفعيل كل الاتفاقيات العربية ذات الصبغة الاقتصادية، وللبحث في كيفية مساعدة الأقطار العربية المحتاجة.

ومن الواضح أن تركيز الرياض على الملفات الاقتصادية يعود إلى أمرين اثنين:

*إيمانها بوجود تشابك بين المشاكل الدولية والإقليمية واستحالة الفصل بينهما، كما أثبتت تجربة الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في رقعة جغرافية محدودة، ولكن انعكاساتها الاقتصادية السلبية عمت كل أنحاء العالم؛ الأمر الذي تتوقع معه الرياض استمرار استفحال الأزمات المالية والغذائية، وترى ضرورة التعاون المشترك بين البلدان العربية للحد من تداعياتها السلبية، وما قد تسببه من توترات اجتماعية مهددة للاستقرار المنشود لتحقيق الرخاء والازدهار.

*تفادي إهدار جهود القمة في نقاشات عقيمة لقضايا ونزاعات سياسية تتخذ بعض البلدان حولها أو في طريقة معالجتها مواقف متعنتة يستحيل التوفيق فيما بينها، مما يساعد فقط على فتح المجال للمزيد من التدخلات الأجنبية في القضايا العربية.  

ولاشك أن عواصم عربية عديدة تشاطر الرياض هذا التوجه، ومن بينها الرباط التي ما فتئت تنادي بعزل كل ما يقرب الشعوب العربية من تعاون اقتصادي وتبادل تجاري وثقافي وطلابي ورياضي عن الخلافات السياسية. لهذا ليس مستبعدا أن يدعم المغرب هذا التوجه، وذلك بأن يكون حضوره في القمة المقبلة وازنا ومؤثرا، ويتناسب وعمق العلاقات المصيرية بين المملكتين، وأدوارهما التكاملية التي ساعدت في نجاح قمم عربية وإسلامية مفصلية في التاريخ الحديث للأمة العربية.

 

مقالات الرأي لا يتبناها “البهموت”، ولا تعني إلا كاتبها، حرصا على الوفاء لشعار”الرأي رأيك”

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة