أزمة السودان في غياهب النسيان

يبدو أن قدر السودان هو المعاناة دائما من حالة عدم الاستقرار الناجمة عن توالي الأزمات السياسية المرتبطة أساسا بالصراع على الحكم، الذي يبدأ عادة في شكل هبات شعبية تسارع لاحتوائها انقلابات عسكرية، سرعان ما تنقلب إلى نزاعات مسلحة وحروب أهلية، كما هو الوضع حاليا منذ منتصف أبريل 2023، بدخول البلاد في صراع مسلح بين طرفين عسكريين يريد كل منهما الاستحواذ على السلطة لوحده، علما بأنهما كانا على وفاق من قبل عندما أطاحا بالرئيس عمر حسن البشير سنة 2019، وتقاسما معا مسؤوليات المجلس الأعلى للسيادة الذي تأسس في أعقاب ذلك، وكذلك عندما أبعدا القوى السياسية المدنية من الحكومة.

وكما هو معلوم، فإن طرفي هذا الصراع هما القوات المسلحة النظامية بقيادة عبد الفتاح البرهان من جهة، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) من جهة أخرى، وهي القوات التي تأسست لتكون جهازا موازيا يدعم القوات المسلحة كان ينتظر دمج عناصرها تدريجيا في الجيش تنفيذا للاتفاق الإطاري المبرم بين مختلف الأطراف في 5/12/2022.

وكالعادة، فإن هذا الصراع السوداني الجديد جذب العديد من التدخلات الأجنبية، من القوى الإقليمية سواء المتأثرة مباشرة بتداعياته أو الطامحة للاستفادة من خيراته، ومن القوى الدولية الساعية إما إلى إيجاد موطئ قدم في موقعه الاستراتيجي أو توسيع نفوذها القائم هناك، ناهيك عن تدخلات العديد من المنظمات الدولية والإقليمية.

وبالنظر إلى أن هذه التدخلات متباينة الأهداف بين الساعية جديا إلى حل الأزمة، وتلك العاملة على تغذيتها وتوسيع رقعتها بالوقوف إلى جانب أحد أطرافها، فإنها ساعدت على استمرار الصراع المسلح، كما ساهمت في انتشاره إلى كافة أرجاء البلاد، مخلفا أوضاعا كارثية مروعة لعل أبرز رقم معبر عنها هو اضطرار أزيد من 20 مليون نسمة إلى العيش في حالة نزوح متواصل، مع ما لذلك من آثار أمنية واقتصادية واجتماعية وخيمة داخل البلاد وفي الدول المجاورة لها.

ومن الطبيعي نتيجة الحجم الكبير للتدخلات الأجنبية أن تتعرقل المساعي الجدية لحل الأزمة السودانية، وأن تظل أسيرة حلقة مفرغة، خاصة وأن الجهات ذات المساعي الجدية ليست لديها لا القدرة ولا القوة لتحقيق ما تريده، كما هو الشأن مع جهود الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيغاد وجامعة الدول العربية ؛ الأمر الذي يعني دخول أزمة السودان لمتاهة النسيان.

ولعل أوضح دليل على ذلك هو قرار القمة العربية الأخيرة في البحرين، الذي اكتفى باستخدام صيغة فضفاضة غير ذات تأثير من قبيل الإعراب عن التضامن مع السودان في الحفاظ على سيادته واستقلاله ووحدة أراضيه ومؤسساته، والدعوة إلى الالتزام بتنفيذ إعلان جدة الموقع بين الطرفين المتحاربين يوم 12 مايو 2023، دون أي إجراءات عملية ملموسة.

إن هذا الوضع غير جديد على السودان، ذلك لأن االراهنة لأزمة  لا تعود كما يروج البعض إلى السنوات الأخيرة بعد انفصال الجنوب في دولة مستقلة سنة 2009، بل العكس هو الصحيح فهذا الانفصال هو نفسه نتاج لهذه الأزمة المزمنة التي انفجرت مباشرة بعد استقلال البلاد سنة 1956 بسبب مواصلة السلطة التي استلمت الحكم آنذاك لنفس سياسة التهميش والإقصاء إزاء جنوب البلاد، الذي شعر أهله بأن الاستقلال لم يغير شيئا في حياتهم غير استبدال الاستعمار البريطاني بما أسموه “الاستعمار العربي الإسلامي”.

وبدلا من تصحيح الاتجاه والبحث عن القواسم المجتمعية المشتركة الكفيلة ببلورة إجماع وطني على كيفية إدارة السلطة وتمثيل كافة مكونات الشعب فيها، واصلت القوى السياسية والمؤسسة العسكرية أيضا تعنتها، وتشبث كل واحدة منها بموقفها وبأحقيتها في تسيير دواليب الدولة بشكل انتفت معه أي إمكانية لبروز إرادة جماعية لمعالجة التركة الاستعمارية، مما ساعد على أن تتشعب الأزمة أكثر، وتتخذ أبعادا جديدة.

وبديهي في هذا السياق أن تتعمق مشاعر عدم الثقة بين كافة القوى السياسية والعسكرية والقبلية والجهوية في البلاد، وأن تلجأ جميعها إلى تقوية مواقفه والتسلح عسكريا تأهبا لأي احتمال، وذلك من خلال البحث عن أي دعم أجنبي ممكن، مما فتح مبكرا أبواب السودان على مصراعيه لتدخل العديد من القوى الإقليمية والدولية في شؤونه، وتأجيج خلافاته الداخلية، وترسيخ النزعة الانفصالية لدى العديد من مناطقه.

ورغم أن أسبابا كثيرة تكمن وراء الاندلاع المبكر للأزمة السودانية واستمرارها، بل واستفحالها واستعصائها عن الحل، إلا أن القاسم المشترك لكل المحطات التي مرت بها هو التورط الكبير والمباشر للجيش فيها، الذي لم ينتظر بعد الاستقلال كثيرا ليقوم بأول انقلاب عسكري بقيادة الجنرال ابراهيم عبود سنة 1958، الذي فشل في تحقيق كل الوعود التي أطلقها فور استحواذه على السلطة، وفي مقدمتها القضاء على تمرد الجنوبيين تحت قيادة ما سمي آنذاك بحركة الأنيانيا “الثعبان الأسود”، الأمر الذي تسبب في اندلاع انتفاضة شعبية عارمة انتهت بسقوط نظامه سنة 1964، وتسلم تحالف واسع من القوى السياسية المدنية للسلطة.

غير أن هذا التحالف المدني سرعان ما أثبتت الممارسة هشاشته وتباين رؤى مكوناته السياسية بشكل مهد الطريق أمام الجيش للتدخل مرة أخرى والقيام بانقلاب جديد سنة 1969 بقيادة العقيد جعفر النميري، الذي استطاع أن يحكم البلاد لمدة 16 سنة مرتكزا على تحالفات مرحلية مع قوى سياسية مدنية عرف كيف يستغل تناقضاتها الفكرية والإيديولوجية.

فلتثبيت سلطته تحالف العقيد النميري في البداية مع الحزب الشيوعي، الذي ساعده في امتصاص بعض من مشاعر الكراهية والعداء التي كانت لدى الجنوبيين إزاء الدولة، وذلك بقبول منحهم حكما ذاتيا بموجب اتفاق أبرم بين الطرفين في أديس أبابا سنة 1972، ولكنه سرعان ما تراجع عنه بعد تحالفه مع الجبهة الوطنية الإسلامية بزعامة حسن الترابي بغية التخلص من الشيوعيين، متهما إياهم بمحاولة قلب نظامه.

أما هذا التراجع لم يكن مستغربا أن يلجأ الجنوبيون من جديد إلى حمل السلاح هذه المرة تحت لواء الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون كارانغJohn Garang   لتعود البلاد مجددا إلى حالة من عدم الاستقرار واستشراء الفوضى التي استفحلت مع قرار الرئيس النميري تعميم تطبيق الشريعة الإسلامية في كافة أرجاء السودان غير آبه بما يزخر به من تعددفي الديانات والثقافات والعادات، مما أفضى إلى انتفاضة شعبية عارمة انتهت بتدخل الجيش مرة أخرى بقيادة المشير سوار الذهب للإطاحة بالنميري والاستيلاء على السلطة سنة 1985.

وعلى خلاف سابقيه من قادة الجيش أبدى المشير سوارالذهب زهدا مستغربا من السلطة، فسارع إلى تنظيم انتخابات برلمانية في البلاد أعادت السلطة إلى المدنيين سنة 1986، ولكن القوى المدنية عكس المشير سوار الذهب ظلت وفية لانقساماتها السياسية وأسيرة أنانياتها الضيقة متيحة الفرصة بذلك للجيش للقيام بانقلاب عسكري جديد بقيادة عمر حسن البشير سنة 1989، الذي ظل يحكم البلاد لحوالي ثلاثين سنة رغم الكوارث التي حلت بها، وفي مقدمتها انفصال الجنوب في دولة مستقلة، والتعرض لعقوبات دولية متعددة، والتي يعتبر الصراع الحالي أحد إفرازاتها.

لا تعادل القضية الفلسطينية في حجم المأساة إنسانيا وسياسيا سوى الأزمة السودانية، ولكن إذا كانت الأولى بفعل أطماع استعمارية، فإن الثانية من صنع أبنائها. أليس هذا هو العقوق نفسه؟

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة