أمريكا وإسرائيل: علاقات عضوية تتحدى الشرعية الدولية

لم يفوت الرئيس الأمريكي جو بايدن فرصة زيارته التضامنية لإسرائيل مباشرة بعد اندلاع مواجهتها العسكرية مع الفصائل الفلسطينية الإسلامية يوم 7 أكتوبر 2023 ليؤكد قناعة راسخة لديه، ولدى معظم النخب السياسية والإعلامية الأمريكية بأن إسرائيل لو لم تكن موجودة لتم إيجادها، وذلك لما تمثله من ذخيرة استراتيجية حيوية للأمن القومي الأمريكي ؛ الأمر الذي برر به موافقته بلا تردد على كل طلبات الدعم العسكري والسياسي التي قدمها الجانب الإسرائيلي.

وقد كان صريحا عندما أشار إلى أن الدعم العسكري اللامحدود بالعتاد والذخيرة، وبإرسال أهم بوراجه الحربية وحاملات طائراته إلى المنطقة يهدف إلى ضمان عدم عودة حركة حماس إلى ترهيب الإسرائيليين مرة أخرى في المستقبل، مضيفا بأنه لم يطلب أبدا من إسرائيل تأجيل الهجوم البري الذي بدأت في شنه على عموم قطاع غزة، وإنما فقط العمل على مراعاة تقليل الخسائر البشرية، وتجنب التصرف بشكل يمكنه تعقيد عملية إطلاق سراح المحتجزين لدى الجانب الفلسطيني، ومن بينهم رعايا أمريكيون.

والملاحظ أن هذا الموقف الأمريكي الذي سارعت معظم القوى الأوروبية الغربية الكبرى إلى الاقتداء به لم يحاول صاحب قرار اتخاذه في الأيام الأولى لاندلاع المعارك تجشم عناء تلطيف تأثيره بدعوات لاحترام المدنيين والمؤسسات التعليمية والصحية وفق مقتضيات قواعد القانون الدولي الإنساني، أو ربطه بضرورة القيام بخطوات ولو رمزية لتحريك البركة الآسنة لعملية التسوية السياسية المجمدة منذ أمد بعيد.

إن موقف الرئيس الأمريكي هذا، الذي ذهب في غلوه إلى التشبث لحد الآن برفض أي وقف لإطلاق النار ما لم تطلبه الحكومة الإسرائيلية أثار استغراب واستنكار أوساط عربية عديدة رسمية وشعبية على حد سواء ؛ كما أن إصرار واشنطن على منح إسرائيل الأولوية المطلقة في خططها الاستراتيجية الكونية على كل دول المنطقة أعاد من جديد طرح تساؤلات قديمة حول دوافع هذا الإصرار، خاصة وأن بعض بلدان الشرق الأوسط العربية وغير العربية وثيقة التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، بل إن أحد هذه البلدان يشارك الأمريكيين عضوية الحلف الأطلسي، ويلعب دورا محوريا فيه.

وإذا كانت هذه التساؤلات التي تطفو على السطح وتتردد بكثرة عند كل تدهور للأوضاع في الشرق الأوسط تستمد شرعيتها من حقيقة مفادها أن حلفاء واشنطن الآخرون يتوفرون فعلا على إمكانيات مادية وبشرية أكبر بكثير مما يتوفر لدى الدولة العبرية، ويتمتع بعضهم بمواقع جغرافية متميز جدا عن موقعها، بإطلالتهم على أهم البحار والطرق الفائقة الأهمية للتجارة العالمية، فإنها تغفل معطيات أساسية تأخذها دوائر صنع القرار الأمريكي دوما بعين الاعتبار ؛ معطيات تكمن في عدم وجود ثقة أمريكية كاملة في أولئك الحلفاء، الذين يمنعهم من التجاوب كلية مع الطلبات الأمريكية عكس ما تفعل إسرائيل إما تاريخهم القومي أو وازعهم الديني، أو تراثهم النضالي ناهيك عن قوة الرأي  العام الداخلي لدى البعض .

لهذا فإن ما حصل من جانب الإدارة الأمريكية غير مستغرب البتة، فبالنظر إلى حجم المفاجأة التي استفاقت عليها إسرائيل عند انطلاق عملية طوفان الأقصى، وحجم الخسائر والأضرار التي تعرضت لها، فإن هذا التبني الأمريكي المطلق للأطروحة الإسرائيلية حول ما حدث في تجاهل تام للأسباب الرئيسية من وراء حدوثه كان منتظرا، لأنه ليس سوى ترجمة عملية لمقتضيات الاتفاق الاستراتيجي الموقع بين الطرفين سنة 1975، وهو الاتفاق الذي صاغ أهم بنوده كاتب الدولة الأمريكي آنذاك هنري كيسنجر، مانحا إسرائيل صفة جزء أصيل من نظام الدفاع الأمريكي الكوني، وليست مجرد حليف ضمن لائحة حلفاء واشنطن المنتشرين عبر أرجاء العالم.

وغني عن الذكر أن هذا الاتفاق الاستراتيجي، الذي ثبتت فاعليته عند كل المحطات المفصلية والمصيرية من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي مصاغ بأسلوب يروم دوما تحقيق مجموعة من الأهداف والغايات أهمها:

1/ توطيد رسوخ العلاقة العضوية بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، التي كان ستيوارت سيمنغتون كاتب الدولة الأمريكي لسلاح الطيران بين 1947 و1950 قد اعتبرها إحدى حاملات الطائرات الأمريكية التي لا تغرق، مشددا على أنه لا يجب أن تكون إسرائيل مجرد جزء من نظام الدفاع الاستراتيجي لأمن أمريكا، وإنما الجزء الذي لا يمكن السماح بأن يتضرر، والذي يجب دائما تحصينه وحمايته بكافة الوسائل والأساليب.

2/ تأكيد الأهمية القصوى للأبعاد العملية والمصلحية في علاقات الطرفين أكثر من الأبعاد العاطفية والإيديولوجية الدينية، التي كانت هي أساس الإعجاب الأمريكي بنشأة الدولة العبرية، وهو الإعجاب الذي يتمثل كما قال عالم الاجتماع الأمريكي

2 / 2

موريس سميث سنة 1968 في أن الأمريكيين عندما ينظرون في المرآة الإسرائيلية يرون أنفسهم، ويسترجعون ذكريات التاريخ الذي صنعه أسلافهم قبل أزيد من 200 سنة.

3/ تطوير كل القدرات الإسرائيلية وضمان تفوقها العسكري النوعي على كل جيرانها في المنطقة بغية تلبية متطلباتها الأمنية، وهي متطلبات مطاطة حسب الظروف ولا تقتصر في أدنى حالاتها على الأبعاد العسكرية والأمنية وحدها ؛ ثم من أجل خدمة المصالح الأمريكية وتأمين استمراريتها، علما بأن هذه المصالح تتمثل أساسا في تواصل تدفق موارد الطاقة بأسعار معقولة، وفي بقاء المنطقة في حالة عدم استقرار مزمن لكي تظل سوقا استهلاكية كبيرة للعتاد الحربي الأمريكي بشكل خاص.

لاشك في أن المعطيات الآنفة الذكر تساعد في إدراك المواقف الأمريكية الأخيرة من المواجهة العسكرية المفتوحة حاليا بين الفصائل الفلسطينية الإسلامية، وبين إسرائيل المتمادية في استغلال بشع لمبدإ الدفاع عن النفس، وللحماية القانونية التي توفرها لها واشنطن على مستوى مجلس الأمن الدولي لمواصلة انتهاك أبسط القواعد والأعراف الدولية المتعلقة بالحروب ؛ الأمر الذي يعني أن نهاية المأساة التي يعانيها قطاع غزة الآن ليست قريبة، خاصة بعد أن عاد الإعلام الغربي عموما والإسرائيلي على وجه خاص لاستخدام مفاهيم كان يعتقد أن تطورات الصراع قد تجاوزتها مثل “الترانسفير”، ثم للحديث عن مخططات قديمة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وكياناته المتعددة.

فهل يدخل التعنت المتواصل أمريكيا وإسرائيليا لرفض أي تفاوض حول وقف إطلاق النار ضمن مقدمات تنفيذ تلك المخططات؟، وهل يستوعب الجانب العربي مغزى ذلك؟

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة