أنا عدو نفسي

هذا العنوان ليس لي، وإنما هو عنوان كتاب صدر باللغة الإنجليزية في ثمانينيات القرن الماضي My Enemy my Self  للصحفي الإسرائيلي يورام بينور Yoram Binur عندما كان مراسلا للجريدة الأسبوعية كول هاعير (صوت المدينة) التي كانت تصدر آنذاك في القدس الغربية.

في هذا الكتاب يروي الصحفي بينور كيف تقمص شخصية عامل فلسطيني من مخيم بلاطة للاجئين بضواحي نابلس ليعاين على أرض الواقع طبيعة العلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهي المعاينة التي قادته إلى أن يكتشف حجم التعامل العنصري والاستعلائي، الذي كان يمارسه عدد كبير من الإسرائيليين من اليهود ضد العمال الفلسطينيين المضطرين إلى البحث عن قوتهم اليومي في مناطق الخط الأخضر.

فهذا التعامل، وفق ما عاينه الكاتب على أرض الواقع، لا يقتصر فقط على الاستغلال البشع لقوة الشغيلة الفلسطينية الجسدية في أعمال يدوية وضيعة، من قبيل العمل المضني في مطابخ المطاعم وفي محطات تنظيف السيارات، وكذا في الحقول الزراعية في (الكيبوتسات)، في ظروف مزرية مقابل أجور زهيدة، وإنما يمتد إلى ازدرائهم عرقيا ودينيا، ناهيك عن التوجس المبالغ فيه من أي تصرف يأتونه ؛ الأمر الذي يساعد بالضرورة على تغذية مشاعر الحقد والعداء والثأر عند الفلسطينيين.

لقد تذكرت فحوى هذا الكتاب لأن ردود فعل قادة الدولة العبرية على عملية طوفان الأقصى كشفت بجلاء أن الفكر السياسي والاستراتيجي الإسرائيلي، الذي تتبناه مختلف النخب السياسية والعسكرية والأمنية والدينية في إسرائيل بغض النظر عن انتماءاتها السياسية الحزبية، وتوجهاتها الفكرية والإيديولوجية إزاء الفلسطينيين لم يتغير رغم كل التطورات التي شهدها الصراع العربي الإسرائيلي، وما عاشته المنطقة من تقلبات سياسية وتغيرات جيواستراتيجية رجحت معظمها كفة أفكار السلام والتعايش على غيرها من الأفكار.

وعلى سبيل المثال، فإن هذه التطورات التي انعكست إيجابيا على إسرائيل ساهمت في تقلص دائرة العداء من حولها، وتوسع دائرة الانفتاح العربي عليها منذ مؤتمر مدريد للسلام سنة 1991 بدءا ب:

*تحييد التهديدات المحتملة التي كان يمثلها عراق نظام صدام حسين إثر القضاء على قواته المسلحة بعد غزوه للكويت.

*اندلاع حرب أهلية في سوريا ضمن ثورات الربيع العربي واحتجاجاته، وانحسار إمكانية نشوب مواجهة عسكرية مباشرة معها.

*تبادل الاعتراف بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية إثر اتفاق أوسلو سنة 1993، وإبرام معاهدة سلام كامل مع الأردن بموجب اتفاق وادي عربة سنة 1994.

*إقامة علاقات دبلوماسية متكاملة بموجب الاتفاقات الإبراهيمية مع الإمارات والبحرين، واستعادة التواصل مع المغرب، فضلا عن التقدم الذي أحرز في مسيرة الانفتاح على السعودية قبل غزو غزة.

ولكن يتضح مما تقترفه القوات الإسرائيلية من جرائم ضد سكان قطاع غزة، وما تمارسه من قيود على سكان الضفة الغربية أن كل خطوات الانفتاح العربي على الدولة العبرية لم تؤثر بشكل إيجابي في نظرة نخبها الحاكمة إلى أبناء الشعب الفلسطيني، التي ما تزال ترتكز في جوهرها على قاعدة أن الفرد الفلسطيني الجيد، هو الفلسطيني المبعد أو الميت، كما لم تكبح ما يعتري هذه النخبة من رغبة جامحة في سعيها الحثيث والمتواصل من أجل إقبار القضية الفلسطينية، وإيجاد حلول عملية لها بعيدا عما تعتبره أرض الميعاد.

فالواضح في هذا الصدد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي  نتنياهو يسير على نهج أستاذه إسحاق شامير، الذي أعلن منذ سنة 1989 أن “يهودا والسامرة ( التسمية الإسرائيلية الرسمية للضفة الغربية) وغزة جزء لا يتجزأ من إسرائيل.. ونحن لن نعطي العرب شيئا في إطار أي تسوية.. لا لن نتخلى عن شبر من أرض إسرائيل، ولا شبر..”، فيما اليمين الديني المتطرف ممثلا بكل من سموتريتش وزير المالية الحالي، وزميله إيتمار بن غفير وزير الأمن يسعى إلى التراجع في التعامل مع قطاع غزة عن فكرة الفصل الأحادي الجانب التي طبقها يميني متطرف آخر هو أرييل شارون سنة 2004 بالانسحاب من القطاع، وتفكيك كافة المستوطنات التي أقيمت هناك، وعددها 17 وحدة استيطانية آنذاك.

وفي سياق ما يبدو من الوقائع الجارية الآن بأن بعض الدروس التاريخية تعيد نفسها من المهم الإشارة إلى الخلاصة التي وصل إليها الصحفي يورام بينور ومفادها أن تصرفات الإسرائيليين إزاء العنصر الفلسطيني تكاد أن تكون ثقافة مشتركة لكل مكونات المجتمع، إذ لاحظها حتى لدى من يدعون أنهم يساريون، مستنتجا بأن اليسار الإسرائيلي يدعي مثاليات لبرالية مزيفة، في انتقاد غير مباشر لمشاريع التسوية التي اقترحتها آنذاك قيادات يسارية من حزب العمل وحركة راتس (ميريتس فيما بعد) لاحتواء الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت سنة 1987.

الجدير بالذكر أن أبرز تلك المقترحات حينها تعود إلى زعيم حزب العمل شمعون بيريز عندما كان وزيرا للمالية في حكومة الوحدة التي شكلها زعيم الليكود إسحاق شامير، وجوهرها الدعوة إلى منح الفلسطينيين إدارة ذاتية لشؤونهم اليومية ضمن كيان سياسي منتخب، ولكنه مجرد من السلاح تحت حماية القوات الإسرائيلية التي لها الحق وحدها في المرابطة على طول نهر الأردن.

إن هذه الممارسات التي لا يتردد يورام بينور في وصفها بغير الأخلاقية وغير القانونية لا يمكنها كما يقول  أن تدفع الفلسطينيين إلى الهرب وإلى بحث كل واحد منهم عن حلول فردية لوضعيته، بل يرى أنها تولد لديهم كل يوم إصرارا غريبا على التشبث بأرضهم ومواصلة البقاء فيها رغم كل الاستفزازات اليومية من الإسرائيليين سواء أكانوا مواطنين عاديين، أو من أفراد الجيش وقوات الأمن.

إن هذا الإصرار الذي لاحظه يورام بينور آنذاك عندما عبرت عنه الانتفاضة الأولى ما يزال قائما، بل ازداد رسوخا، وارتدى أشكالا أخرى باتت أكثر إيلاما للمواطنين الإسرائيليين تنغص معيشتهم وتهدد حياتهم. أشكال تؤكد لكل ذي بصيرة أن المطالبة بدولة فلسطينية مستقلة ليست مطالبة عادلة وشرعية فحسب، وإنما هي ضرورية باعتبارها مفتاح الأمن والاستقرار ليس لإسرائيل وحدها، وإنما لعموم الشرق الأوسط.

يقول يورام بينور في ختام كتابه بأنه وضع مرآة أمام المجتمع الإسرائيلي لكي ينظر إلى حقيقة وجهه حتى لا يكون عدو نفسه. فالمجتمعات التي تعادي نفسها هي في الواقع تهدد بقاءها.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة