أوروبا والشرق الأوسط..بين البحث عن السلام واحتواء تعاطف الرأي العام

يتحرك الاتحاد الأوروبي في اتجاه عقد مؤتمر للسلام بين الإسرائيليين و الفلسطينيين في أواخر شهر يونيو 2024 على أساس وثيقة مكونة من 12 بندا تتضمن خطوطا عريضة لخارطة طريق جديدة تأخذ بعين الاعتبار تداعيات عملية طوفان الأقصى التي أعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمامات العالمية، خاصة في ضوء المآسي الإنسانية الناجمة عن حرب الثأر الإسرائيلية على قطاع غزة.

وفي المعلومات المستقاة من مصادر أوروبية، فإن الحديث عن صياغة هذه الوثيقة المطروحة كأرضية لبدء التفاوض بين الطرفين جاء بمبادرة إسبانية في نهاية شهر أكتوبر 2023 أثناء انعقاد اجتماع لمجلس الاتحاد الأوروبي الذي كانت ترأسه مدريد آنذاك، وذلك إثر رفض أغلبية الدول الأعضاء حينها مقترحا إسبانيا بإصدار دعوة جماعية لوقف فوري لإطلاق النار في غزة.

وتضيف ذات المصادر بأن الخطوط العريضة للوثيقة تبلورت في شهر يناير 2024 خلال اجتماع لمجلس الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي بعد الاستماع بشكل منفرد لكل من وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس، ووزير خارجية السلطة الفلسطينية آنذاك رياض المالكي، وبعد تلقي آراء وملاحظات معظم الدول الأعضاء.

ورغم عدم نشر كامل بنود الوثيقة، فالواضح مما تسرب عنها أن منطلقها يكمن في فحوى الرسالة التي وجهها منسق السياسة الخارجية الأوروبية جوزيف بوريل لاستمزاج آراء الأعضاء ومفاده أن الحل السياسي المستدام والطويل الأمد للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وحده الكفيل بتحقيق السلام والاستقرار للشعبين وللمنطقة، وأن أساس هذا الحل يتمثل في ضرورة إقامة دولة فلسطينية مستقلة تعيش في أمن وسلام جنبا إلى جنب مع إسرائيل.

وفي قراءة أولية لما رشح عن الوثيقة يتضح أنها لا تستبعد رفض أحد الطرفين أو كلاهما للمشاركة في المؤتمر المقترح من باب إثبات الذات، والتعبير عن عدم الرضوخ لما قد لا يتوافق مع سياساتهما. ولذلك:

*أشارت إلى أن شجاعة المشاركة تتطلب أن تتوفر لدى الجانب الإسرائيلي الإرادة السياسية والإجماع الوطني للدخول في مفاوضات جدية وبجداول زمنية محددة تتوخى وضع حل الدولتين على سكة التنفيذ، فيما يحتاج الجانب الفلسطيني إلى إيجاد بديل سياسي جديد لحركة حماس في غزة، وإعادة بناء السلطة الوطنية الحالية، التي شاخت، وبدا عجزها واضحا على كافة المستويات.

*أكدت على أن دور المشاركين في التنظيم يقتصر على المساعدة في تمهيد الطريق إلى السلام الشامل، وذلك بالعمل على  توفير ضمانات أمنية قوية وفعلية لدولة إسرائيل لنزع هذه الذريعة منها، وتأمين عملية اندماجها في نسيج المنطقة العربية من خلال الاعتراف الكامل بها، وتبادل التمثيل الدبلوماسي معها، إضافة إلى توسيع نطاق التعاملات الاقتصادية والمالية والتكنولوجية، ورفع حجم المبادلات التجارية.

*تحدثت عن إمكانية استخدام التهديد باتخاذ عواقب (لم تحدد طبيعتها) على كل من يرفض المشاركة في المؤتمر المقترح، وخاصة إسرائيل الأقرب إلى مقاطعته في ظل حكومتها اليمينية المتطرفة المصرة على تحقيق نصر ساحق في غزة، والتي لم تعد تخفي رفضها المطلق لإقامة دولة فلسطينية تحت أي ظرف من الظروف، ووفق أي سيناريو حتى ولو كانت دولة شكلية ومقيدة السيادة.

لهذا، فإن طريق الوصول إلى مجرد انعقاد المؤتمر المقترح ليست مفروشة بالورود، وأن الأمر يتطلب تجاوز عقبات إجرائية وموضوعية كثيرة بعضها إسرائيلي والبعض الآخر فلسطيني وعربي وإقليمي تتجاذبه نزاعات متعددة حول تقاسم النفوذ في المنطقة، ناهيك عن كل ما هو دولي في سياق ما تعرفه الساحة العالمية من صراعات محمومة بين أقطاب العالم الكبار.

فمما لاشك فيه، فإن إسرائيل ستكون أول المعترضين على عقد مثل هذا المؤتمر، بل إن مصادر أوروبية تقول بأن التحالف اليميني المتطرف الحاكم حاليا في تل أبيب باشر اتصالاته الدبلوماسية، وبدأ تحريك اللوبيات المؤيدة له في العواصم الغربية الكبرى بغية إجهاض المؤتمر المرتقب في مهده، خاصة وأن تكثيف الاتصالات لعقده تزامنت مع خطوات أوروبية ودولية تعتبرها تل أبيب عدائية لها، وتشكل ضغوطا عليها تتمثل فيما يلي:

1/ قيام ثلاث دول أوروبية (اسبانيا، النرويج وإيرلندا) بالاعتراف بالدولة الفلسطينية.

2/ قرار محكمة العدل الدولية بشأن عدم شرعية ولا أخلاقية ممارسات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة.

3/ مذكرات المحكمة الجنائية الدولية بجلب قيادات إسرائيلية للمحاكمة كمجرمي حرب.

ولكن في مقابل تلاحم التيارات السياسية الإسرائيلية في الدفاع عن كيانها، فإن ما يمنع وجود تأثير فاعل للتحرك الفلسطيني هو غياب الحد الأدنى من التوافق بين فصائله المختلفة، بل وتبادل الاتهامات فيما بينها. وأغلب الظن ألا تقبل حركة حماس التي أدت فاتورة دم ودمار باهظة بشطبها أو تخطيها في أي مساع لتسوية القضية الفلسطينية ما لم تكن هناك تدخلات من الدول العربية والإقليمية التي تحتضنها لثنيها عن القيام بما قد يعرقل انعقاد المؤتمر. ولعل هذا هو جوهر الاتصال الذي أجراه رئيس المجلس الأوروبي مع سمو أمير دولة قطر يوم 27 مايو 2024.

وإذا كان إدراك الاتحاد الأوروبي لمحدودية إمكانياته في الضغط  نحو الوصول إلى انعقاد المؤتمر هو الذي يقف وراء إعلانه بأن الاتصالات جارية لإشراك كل من واشنطن والأمم المتحدة في تنظيمه، فإن الأمل يحدوه في رفع نسبة إمكانية نجاح مساعيه، وذلك بعد حصوله على موافقة كل من مصر والأردن والسعودية للمشاركة في تنظيم المؤتمر، غير مستبعد أن هناك معطيات عديدة لا تساعد في تأمين نجاح المؤتمر. وتتمثل أبرز هذه المعطيات فيما يلي:

*احتمال كبير لأن ترفض واشنطن التي احتكرت رعاية كل مسارات السلام في المنطقة منذ سبعينيات القرن الماضي تقليص دورها الطليعي في هذا المجال، بل ومن الممكن أن تعارض هذه المبادرة الأوروبية، خاصة وأن الإدارة الديمقراطية الحالية تستعد لحملة الانتخابات الرئاسية التي لن تجازف خلالها بفقدان الدعم المالي والسياسي والإعلامي للوبي اليهودي المقرب من أحزاب الائتلاف اليميني الحاكم في إسرائيل.

*اقتصار المبادرة الأوروبية على المسار الفلسطيني دون أي إشارة إلى باقي المسارات كما حصل في مؤتمر مدريد في أكتوبر 1991، وخاصة الجبهتين السورية واللبنانية المهددتين بالانفجار في ضوء دور الإسناد الذي يمارسه حزب الله دعما لفصائل المقاومة الفلسطينية.

*ضمان حضور جامعة الدول العربية للمؤتمر المقترح لا يمنع بروز معارضة بل ومقاطعة بعض الدول العربية إن دعيت له، وخاصة تلك الدول المعروفة بتوظيف القضية الفلسطينية للمزايدات الداخلية والإقليمية، علما بأن بالإمكان الحد من تأثير هذا النوع من المعارضة من خلال توسيع دائرة المشاركة العربية والإقليمية لدول تحظى بالمصداقية وبثقة الطرفين.

في ضوء ما سبق يبدو مشروعا التساؤل عما إذا كانت المبادرة الأوروبية جادة المسعى أم تهدف فقط إلى احتواء ما قد يصيب القارة العجوز من تداعيات سلبية سياسية وأمنية وإنسانية خطيرة من جراء التدمير الكامل لقطاع غزة، وامتصاص تزايد التعاطف الشعبي الأوروبي مع مأساة الشعب الفلسطيني؟

إن غدا لناظره قريب.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة