التباهي في العلاقات الدولية: الأنظمة الدكتاتورية تغالي

لا يقتصر التباهي في الساحة الدولية على بلد دون آخر، فجميع بلدان العالم مهما كان مستواها الاقتصادي، وحجم ثرائها المادي، ومهما كان موقعها الجغرافي وحجم مساحتها وعدد سكانها تسعى إلى استغلال أي مناسبة داخلية أو تظاهرة خارجية لكي تستعرض حسب طبيعة المناسبة ومجال التظاهرة كل العناصر الموضوعية والذاتية التي يفترض أنها تمثل قوتها، وما تعتقد أنه يعكس متانة تماسك جبهتها الداخلية.

ولذلك لا تتوانى كافة البلدان في تسليط الأضواء الإعلامية والدعائية على ما حباها الله من طاقات وثروات معدنية في باطن أرضها وعلى طول سواحلها، وعلى ما تتوفر عليه من مؤهلات اقتصادية صناعية وزراعية وتجارية ومالية واستثمارية، وما تتمتع به من أماكن سياحية، ناهيك عما تكون قد حققته من منجزات علمية وتكنولوجية وثقافية ورياضية وغيرها، وما أنجبته أو كونته من أطر وكفاءات في مختلف المجالات.

والملاحظ أن الدول لا تكتفي بذلك، وإنما لا تتردد أيضا في التباهي بما تمتلكه من تنوع وتشعب في علاقاتها الدولية، ومن تعدد في انتماءاتها للتنظيمات والمنتديات والتجمعات الدولية والإقليمية على اختلاف تخصصاتها، وما قامت به من أدوار سلمية وإنسانية خيرية، وما حصلت عليه من وراء ذلك من زيادة في حجم نفوذها السياسي، سيان عندها إن كان هذا النفوذ يمارس في محيطها الإقليمي أو على صعيد أوسع يوازي مستوى نشاطها الدبلوماسي. فالمهم بالنسبة لمعظمها هو البحث عن اكتساب المزيد من المصداقية والاحترام والتقدير والهيبة على المسرح الدولي.

ورغم تعدد مناسبات وتظاهرات التباهي، فهي عموما إما ذات طبيعة عسكرية وأمنية أو تتعلق بمجالات مدنية. فإذا كانت المناسبة عسكرية يتم توظيف التباهي فيها إما للردع أو إثبات توازن القوة على الصعيد العالمي بالنسبة للقوى الكبرى، أو في نطاق مجالها الجغرافي المباشر والمحدود بالنسبة للقوى الإقليمية، التي لا يخفي بعضها أن من وراء التباهي المسلح توجد أيضا رغبة إبداء الاستعداد للقيام بأدوار دولية إيجابية بحثا إما عن رفع مستوى مصداقيتها داخل المجتمع الدولي ممثلا في منظمة الأمم المتحدة من خلال المشاركة في قواتها لحفظ السلام (القبعات الزرق)، أو سعيا للحصول على بعض من الثناء والتقدير من القوى العظمى بشكل خاص.

أما بخصوص التباهي المرتبط بالمناسبات المتعلقة بمختلف الأنشطة المدنية، فقد أثبتت العديد من الممارسات أن التركيز فيها يكون عادة على ضرورة استغلالها كأداة لإبراز ما يتوفر عليه البلد المعني من طاقات اقتصادية، وما يميزه عن غيره كبيئة استثمارية جاذبة ومغرية، فضلا عما يتوفر عليه من مقومات سياحية، وما يكتنزه من تراث مادي لامادي، وغيرها من الأدواتالتي تدخل في عداد القوة الناعمة، التي باتت مصطلحا يردده كثيرون دون إدراك عميق لما يعنيه، ولا أين يتجسد وبأي كيفية؟.

لهذا وانسجاما مع الغايات المرجوة من الاستخدام الأمثل للتباهي سواء بالقوة الخشنة أو بأدوات القوة الناعمة الحقيقية المتوفرة لديها، فإن القوى العظمى تحرص على أن تكون مظاهر تباهيها متقنة ومتكاملة، وذلك لأنها تبحث من وراء توظيفها عن تحقيق أهداف متعددة  وليس هدفا واحدا فقط.  فهي تبحث في المقام الأول عن تحقيق أبعاد استراتيجية كونية في المواجهة المحتدمة فيما بينها، ولكنها إزاء بقية البلدان الأخرى تستغل مظاهر التباهي حسب الحاجة، فتارة لردع من يفكر أو يتمادى في التطاول عليها، وطورا للابتزاز، وثالثة كنموذج يطرح الاقتداء.

بالمقابل، فإن أسباب التباهي لدى بلدان العالم الثالث ومن بينها البلدان العربية تختلف عادة باختلاف طبيعة الأنظمةالسياسية الحاكمة فيها، وذلك كما يلي:

*من خلال متابعة تجارب متنوعة يتضح أن الأنظمة ذات الطابع العسكري الدكتاتوري هي الأكثر استخداما للتباهي، غير آبهة إن كان متقنا أو مرتجلا، وذلك لأنها لا تروم من وراء توظيفه سوى صرف بوصلة أنظار رأيها العام الداخلي عن متابعة مشاكله الحقيقية، وإيهامه بأنها بصدد تحقيق إنجازات ساعية إلى:

1/ تسويق ما تتوهمه من أنها قوة إقليمية علما بأن مثل هذه الأوصاف لا يطلقها المرء على نفسه، وإنما ينبغي أن يعترف له الآخرون بهذه الصفة والأدوار المرتبطة بها.

2/ تعبئة الأغلبية الشعبية وراءها ضد ما تحاول ترويجه عن وجود تآمر ضدها، تآمر تتعمد صياغته بشكل مبهم وغالبا دون تحديد مصدره، الذي ينسب حسب الحالات تارة إلى قوى المعارضة الداخلية، وتارة أخرى إلى قوى خارجية، وفي الكثير من الأحوال تخلط هذه بتلك لكي يسهل عليها اتهام قوى الداخل المعارضة لها بالخيانة بغية العمل على تصفيتها بشكل نهائي.

*فيما بقية الأنظمة، وخاصة تلك الموصوفة بالاعتدال، فهي أكثر حرصا على إتقان عملية إخراج التباهي، وتلتقي مع الأنظمة الدكتاتورية في محاولة استمالة الرأي العام الداخلي وتعبئته للقضايا التي تقرر هي إضفاء صبغة الأولوية عليها دون غيرها، ولكنها أكثر حرصا على إثارة الانتباه الدولي إعلاميا ودبلوماسيا إليها وإلى سياساتها، وعلى إثبات رسوخ أسس مصداقيتها، مركزة عند التباهي على المقارنة مع جيرانها أو مع الدول المنتمية إلى إقليمها، فبعضها يركز على السبق التاريخي، والبعض الآخر على الريادة القارية، وهكذا في تسابق لتضخيم منجزاتها حتى لو كانت بسواعد غيرها.

وإذا كان التباهي يمثل سلوكا جماعيا تلجأ إليه كافة الدول للتعريف بنفسها، أو لإسماع صوتها وتلميع صورتها وأحياناوبطريقة غير مباشرة لترهيب خصومها، فإن مداه وحجم التأثير المراد تحقيقه من ورائه يختلف باختلاف الحجم الحقيقي الملموسأيضا والمجرب لقوة الدول، ولما تمتلكه من موارد فعلية، وليست مفترضة تمكنها من تحقيق التأثير المطلوب تأمينا لمصالحها القومية العليا أو توسيعا لها. فالتباهي بأي شكل كان عسكريا أو مدنيا لا يحقق كل الأغراض المتوخاة منه ما لم يقترن ليس فقط بالقدرة على الوعد أو الوعيد باستخدام مختلف آلياته، وإنما بتوفر الإرادة السياسية على وضعها موضع التنفيذ عند الضرورة.

وآنذاك عند الامتحان، كم من مغالي في التباهي سيهان.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة