الحرب في السودان هي أولا اختبار لاتجاهات الدبلوماسية العربية الجديدة

على مدى السنوات الثلاث الماضية، كانت النخب الحاكمة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تهنئ نفسها على ما تدعيه، (ويرغب بقيتنا في تصديقه) أنها حقبة جديدة من الدبلوماسية العربية.

‏المقولة، التي يتردد صداها في دوائر السياسة الخارجية الأمريكية، تفيد بأنه نظرًا لأن الولايات المتحدة تفقد اهتمامها (أو بكلمة اخرى تتخلى عن التزاماتها) في العالم العربي، فإن القادة في هذه المنطقة يقومون بالتكيف مع بعضهم البعض، ومع القوى العالمية الأخرى ببراعة، من أجل حل المشاكل طويلة الأمد في منطقتهم.

‏العديد من المبادرات الاقليمية بدءا من اتفاقيات إبراهيم مع إسرائيل إلى الاتفاق السعودي الإيراني، تطرح كأمثلة على هذه البراعة الدبلوماسية الجديدة، والرسالة الأساسية منها هي أن “العرب ليسوا بحاجة إلى حلول غربية للأزمات القائمة في وسطهم”.

‏طبعًا تتجاهل هذه المقولة عدد الأزمات التي خلقها الفاعلون الذين يحتلون مركز الصدارة الآن كرجال دولة.

‏لنأخذ مثالاً واحداً على ما نقول: كان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان المحرك الرئيسي للمستنقع اليمني الذي يحاول الآن تخليص نفسه منه، من خلال الاتفاق على شروط مع الجمهورية الإسلامية الايرانية. ما يقوم به ليست حنكة سياسية بقدر ما هو خضوع.

‏لكن فكرة أن اللاعبين الإقليميين قد بدأوا يتعاملون مع مشاكلهم بأنفسهم الان تتناسب مع إجماع الحزبين في واشنطن على أن الولايات المتحدة يجب أن تقلل من انخراطها الدبلوماسي للعالم العربي، وتعيد تخصيص مواردها لمناطق أخرى مليئة بالأزمات، مثل شرق آسيا، ومؤخراً شرق أوروبا. لكن سرعان ما تأتي حرب عربية اخرى.

‏يمثل التنافس الدموي على السلطة بين الجنرالين المارقين في السودان تحديا جديدا للدبلوماسية العربية الجديدة.إن القيام بمفاوضات خلال فترة توقف في نزاع أنهك المقاتلين شيء (كما هو الحال في اليمن وسوريا) وتنظيم هدنة بين طرفين متحاربين مصممين قد انطلقا للتو في القتال شيء اخر.

‏وقف إطلاق النار الذي دبرته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة لم يلتزم به أبدًا: لم يبد الطرفان المحاربان المتمثلين في قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وقائد القوات شبه العسكرية محمد “حميدتي” حمدان دقلو، اهتمامًا بوقف قواتهم.

وكما هو الحال مع اليمن، فإن الأزمة السودانية صنعها العرب.

‏فعندما أطيح بالديكتاتورية العسكرية التي استمرت 30 عامًا لعمر البشير بانتفاضة شعبية سلمية قبل أربع سنوات واستبدلت بحكومة انتقالية من المدنيين والجنرالين المعنيين، اختارت الدول العربية الكبرى دعم الطرف الاخير منها.

‏انحازت مصر، بقيادة جنرال تولى السلطة في انقلاب، إلى البرهان، في حين دعمت السعودية والإمارات حميدتي الذي أرسل مقاتلي قوات الدعم السريع بشكل اجباري لخدمة مصالح البلدين في اليمن.

‏لم يكن مهمًا أن يتهم كل من البرهان وحميدتي بالمشاركة في الإبادة الجماعية في دارفور، ولم تهتم الدول العربية كثيرًا بتطلعات السودانيين المحطمة عندما كان الجنرالان يتصرفان بشكل مشترك لطرد المدنيين من الحكومة والسيطرة على الخرطوم.

‏كانت القيادة العسكرية ممتنة لتحركات العرب، ففي ديسمبر الماضي وبعد أن أعلن الجنرالان عن اتفاق غير صادق بشكل واضح لاستعادة بعض المشاركة المدنية في الحكومة، وقع كونسورتيوم إماراتي صفقة أولية بقيمة 6 مليارات دولار لبناء ميناء جديد وبنية تحتية أخرى على ساحل البحر الأحمر.

‏يجب أن يُظهر القتال بين قوات البرهان وحميدتي لرعاتهما من العرب أنه لا يمكن الوثوق بالجنرالات، وأنه من الأفضل عقد صفقات مع حكومة مدنية خالية من التدخل العسكري. وبالنظر إلى أن الجنرالين يملكان القليل من الممولين والموردين الآخرين للأسلحة، فإن الدول العربية لديها القدرة على كبح جماحهما. كما يجب أن تكون هذه الدول قادرة على استخدام علاقاتهم العميقة مع موسكو لتقييد الدور الذي تلعبه مجموعة فاغنر الروسية في السودان، لكن التحدي الأكبر للسعوديين والمصريين والإماراتيين هو الابتعاد عن ميلهم التاريخي إلى تفضيل الرجال الأقوياء وأمراء الحرب.

‏حرب السودان تمثل فرصة حقيقية لإظهار أن “الدبلوماسية العربية الجديدة” موجودة بالفعل.

بوبي غوش