الشرق الأوسط: كيف تنتصر إرادة السلام؟

تتواصل الحرب الإسرائيلية الانتقامية على غزة، ويتواصل معها قلق العرب والإسرائيليين معا، يتمحور قلق الدول العربية حول فشلها في الدفع بالأحداث نحو توقيف الحرب، ووضع حد للمآسي الإنسانية المروعة التي تخلفها يوميا، ولما تسببه من توترات داخل مجتمعاتها، فيما يتمثل قلق إسرائيل في عدم قدرتها على إيجاد كيفية يمكن أن تحسم بها هذه الحرب وتحقيق المبتغى المثالي، الذي تمني النفس بالوصول إلى إنجازه بأقل التكاليف الممكنة كي تتفرغ لوقف التأثيرات السلبية المتعددة الأوجه الناجمة داخليا وخارجيا عن استمرار هذه المواجهة.

ويعزى القلق الإسرائيلي الذي يتجلى في ارتباك القرارات وسرعة تبدلها، واتخاذ العديد من المواقف المتناقضة والمتذبذبة إلى أن حكومة نتنياهو دخلت هذه الحرب بروح ثأرية، وبغطرسة مفرطة الثقة في قوتها العسكرية دون أن تكلف نفسها عناء رسم ولو مجرد خطوط عريضة لاستراتيجية الخروج من مستنقع غزة متى ما علقت فيه، ومن دون تحديد دقيق لأهداف بديلة، واقعية وقابلة للتحقيق وليست أهدافا طوباوية.

أما القلق العربي المتعدد الأشكال بتعدد البلدان والأنظمة السياسية الحاكمة، وما تتميز به من تباين في المواقف الأولية لها من الصراع العربي الإسرائيلي بصفة عامة، والذي يتحول بين الفينة والأخرى إلى توتر، خاصة لدى دول الجوار فهو ناجم بشكل أساسي عن عجز جماعي مزمن يكمن في:
*عدم القدرة على التأثير في مسار الأحداث الميدانية العسكرية والإنسانية.
*غياب التأثير الفعلي والحاسم في المواقف السياسية والتفاوضية لأطراف المواجهة المباشرة.
*الإخفاق في تليين مواقف القوى الدولية والإقليمية المتورطة في الحرب القائمة بدعم هذا الطرف أو ذاك.
وإذا كانت حدة القلق العربي تتفاقم يوما بعد يوم مع تواصل الحرب الانتقامية وتزايد أعداد ضحاياها، وما يتبعها من تزايد منسوب الخشية والتخوف من تضاعف احتمالات توسيع دائرة الحرب بسبب تدخل أطراف إقليمية تعتبر نفسها لحد الآن جبهات إسناد فقط، ناهيك عن إمكانية تململ رأيها العام الداخلي، وما قد يتسبب فيه من اضطرابات أمنية، فإن القلق الإسرائيلي لا يقل حدة هو الآخر.

ويكمن القلق الإسرائيلي الذي يبدو مرهقا للائتلاف الحكومي القائم هناك في الانتقادات الداخلية، ومن الحلفاء أيضا لعدم بلورة الحكومة لأي استراتيجية واقعية لما بعد الحرب، ولاستمرار فشلها في تخليص بعض الرهائن المحتجزين، وفي القضاء على قدرات المقاومة الفلسطينية، مع تواصل سقوط الضحايا من الجانبين وإن بنسب غير متكافئة ؛ الأمر الذي أحدث شرخا في المعسكر الغربي الداعم لإسرائيل، وأدى بشكل خاص إلى بروز نوع من التذمر في أوساط المجتمع الإسرائيلي بدأ يعبر عن نفسه في مظاهرات يومية تقودها عائلات الرهائن الباقين على قيد الحياة، وتؤيدها قوى سياسية معارضة، وذلك رغم جهود  حكومة نتنياهو الساعية إلى بلورة إجماع داخلي حول سياسة المواجهة العسكرية التي تتبناها.

إن هذا التذمر الداخلي في إسرائيل من شأن استغلاله أن يخفض قليلا من منسوب القلق الذي ينتاب عددا من الدول العربية، وخاصة دول معسكر الاعتدال والواقعية البعيد عن العنتريات اللفظية، والذي ظل وفيا لتوجهاته السلمية وخطاه العملية في هذا الاتجاه رغم كل ما يقع في المنطقة من تطورات سلبية، ورغم ما يتعرض له من انتقادات وتهجمات وصلت إلى حد اتهامه بالخيانة والتآمر على القضية الفلسطينية مع أنه أكثر الأطراف العربية دعما لهذه القضية سياسيا وماليا أيضا.
فكيف يمكن استغلال التذمر المتنامي في المجتمع الإسرائيلي إزاء حكومة نتنياهو؟

أثبتت التطورات التي تلت عملية طوفان الأقصى أن كافة محاولات اليمين الإسرائيلي المتطرف العسكرية والاستيطانية والإعلامية والدبلوماسية لتهميش جوهر الصراع العربي الإسرائيلي المتمثل في احتلال أراضي الفلسطينيين ورفض إقامة دولتهم المستقلة قد باءت بالفشل، إذ بات أكبر حلفاء إسرائيل في الغرب وعلى رأسهم الإدارة الأمريكية يطالبون بتسويتها وفق حل الدولتين، كما أن الحرب لم تعد ذلك الإسمنت الذي يجعل من سكان إسرائيل شعبا موحدا كما لاحظ ذلك منذ زمن بعيد آرييه إيلياف في مقاله “سقط الحساب” المنشور في كتاب “إسرائيل الثانية : المشكلة السفاردية”

لقد اكتشفت شرائح واسعة من المجتمع الإسرائيلي، ومن المؤمنين بالديانة اليهودية أن اليمين المتطرف الذي يقود الحكومة الإسرائيلية حاليا ليس قدرا محتوما، وهنالك وعي متنامي لدى الرأي العام الداخلي في الدولة العبرية بحدوث سقوط أخلاقي لمختلف مكونات هذا اليمين، سقوط لم يتردد كثير من الإسرائيليين في اعتباره بداية خطر وجودي صار يتهدد مستقبل الدولة العبرية نفسها، خاصة بعد أن أوضحت التطورات بأن زعماء هذا اليمين لا يبحثون سوى عن خلاصهم الشخصي سياسيا وجنائيا قبل أي شيء آخر.

لذا من الواجب على القوى العربية المعتدلة المؤمنة بحتمية انتصار مبادئ السلام والتعايش، (وهي الأغلبية على الساحة) ألا تقف مكتوفة الأيدي تتابع بقلق وتوجس ما يجري على الأرض، بل هي مطالبة بأن تتحرك لقطع الطريق على التطرف من الجهتين، وذلك ب:

*عدم الانسياق وراء المزايدات اللفظية التي ثبت أن ما يسمى في الساحة العربية بقوى الممانعة لا تتقن غيرها.

*الانفتاح على القوى الإسرائيلية الراغبة فعلا في تسوية قضايا الصراع العربي الإسرائيلي، وهي موجودة، وذلك لطمأنتها على الجدية العربية في السلام، خاصة أنها قوى باتت على قناعة بأن الصراعات المسلحة مكلفة، وغير عملية على المدى البعيد.

آن أوان وقف القتل المجاني، وهدر الطاقات والإمكانيات والبحث عن سلام الشجعان الحقيقي كما تصوره الراحل ياسر عرفات، فلا يمكن بناء نظام إقليمي آمن وفعال بالتسابق في امتلاك القوة العسكرية، وإنما بالشجاعة في اتخاذ ما يلزم من خطوات سياسية واقتصادية واستثمارية.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة