الصحراء المغربية وحق تقرير المصير: أي مصير؟

قبل أن يأخذ مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها طابع قاعدة قانونية دولية رخوة Soft International Law بموجب إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1514 لسنة 1960 كانالحديث عنه قد بدأ في زمن سيادة الظاهرة الاستعمارية، انطلاقامما يمكن اعتباره إرهاصات أولى لهذا الحق تضمنتها المبادئ 14 للرئيس الأمريكي وودر ويلسون، المعلنة في أعقاب نهاية الحرب العالمية الأولى، التي كانت واشنطن ترغب في تكريسها أساسا للنظام الدولي الناجم عن نتائج تلك الحرب المدمرة.

ورغم أن معظم الشعوب قد بتت في مصيرها بشكل أو بآخر، فإن التطورات الجيو استراتيجية التي عرفتها الخريطة السياسية العالمية على مدى العقود الأربعة الأخيرة، وخاصة بعد تفككالاتحاد السوفياتي والاتحاد اليوغوسلافي هي التي سمحت لمبدإ حق تقرير المصير بالحفاظ على قيمته الأساسية واقعيا وعمليا، وبارتداء أبعاد إقليمية ودولية جديدة تتجاوز الإطار الجغرافي الذي يفترض أن يطبق فيه.

ومن الواضح أن العوامل التي ساعدت على أن يتخذ هذا المبدأ أبعادا أكبر وأعمق تنسجم والمعطيات السياسية والجغرافية والبشرية التي تدفع في اتجاه المطالبة بتطبيقه تكمن في صدوره في صيغة إعلان مبادئ للاسترشاد من الممكن أن تقود حسب الحالات والظروف المحيطة بها، إما إلى الاستقلال التام، أو الدخول الحر في علاقات ارتباط تعاقدي مع دولة مستقلة، فضلا عن خيار الاندماج الكلي في تلك الدولة. كما تكمن أيضا فيما يتسم به من مرونة تتيح إمكانية حصول تطورات في محتواه لمواكبة التغيرات الجوهرية والمعطيات المستجدة في الجغرافيا السياسية الدولية.

إن هذه المرونة المتمثلة في الطابع المتجدد والمتطور لمفهوم حق تقرير المصير، هي التي سمحت بالحديث عن وجود أشكال متعددة لكيفية تطبيقه، وهي أشكال لا تستمد شرعيتها فقط من خلال تطبيقها بطرق متباينة في حالات عديدة، وإنما تحظى بسند قانوني من صلب القرار 1514 نفسه، الذي تتحدث فقرته الثانية عن حق الشعوب في أن تحدد بحرية وضعها السياسي وتحقق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فيما تعتبر الفقرة السادسة أي محاولة لتفتيت الوحدة الوطنية أو التماسك الإقليمي لأية دولة بمنزلة عمل يتنافى وأغراض ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه.

وللتأكيد أكثر على شرعية تعدد أشكال وصيغ تطبيق هذا الحق حرصت الجمعية العامة للأمم المتحدة على تضمين روحه كحق أصيل لكافة الشعوب مشروط بعدم المساس بالوحدة الوطنية للدول في كل من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وصنوه المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادرين سنة 1966، فضلا عن إعلان مبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول الصادر سنة 1970.

لهذا، واستنادا على الصيغ والأشكال المرنة التي ارتداها مبدأ حق تقرير المصير عند تطبيقه على الأرض في احترام كامل لفحوى الإعلانات الأممية، التي أشارت إليه لم يتردد عدد منفقهاء القانون الدولي في التمييز بين حق تقرير المصير الخارجي، وحق تقرير المصير الداخلي، مع التشديد على ضرورة أن يطبق كلاهما بموافقة الأمم المتحدة سواء تحت رعايتها أو بمباركة منها.

إن تقرير المصير الخارجي يطبق عادة على أساس استفتاء شعبي تشرف على تنظيمه وضمان حسن سيره منظمة دولية أو إقليمية أو كلاهما معا، وذلك إما لوضع حد لحالة استعمارية أو إنهاء وصاية أجنبية على بلد ما مثلما حدث في استفتاء 1 يوليوز 1962 الذي نالت الجزائر استقلالها بموجب نتائجه أو بعد استحالة التعايش المشترك بين المكونات العرقية أو الدينية أو المذهبية لدولة ما ونشوب حرب أهلية فيما بينها كما حصل في جنوب السودان سنة 2009، وقبله في إرتيريا سنة 1993، رغم أن هذه الأخيرة دخلت في البداية وبرضا شعبي في اتحاد فدرالي مع إثيوبيا، ولم تخض حرب تحرير شاملة للانفصال إلا بعد أن عمل الإمبراطور هيلاسي لاسي على طمس الهوية الإرتيريةوصولا إلى إنهاء الوضع الفدرالي سنة 1962.

إن المثالين الأخيرين يبرهنان على أن حق تقرير المصير الخارجي ليس حقا مطلقا، ولا يمثل تطبيقه ضرورة حتمية، وإنما هو مجرد بديل لحق تقرير المصير الداخلي. وحسب العديد من فقهاء القانون الدولي (انظر على سبيل المثال كتابات الأستاذ Daniel Turp) يتم اللجوء لتطبيق حق تقرير المصير الخارجي عند استحالة تطبيق حق تقرير المصير الداخلي أو التنكر له، وعدم احترام الاتفاقيات المبرمة بشأنه، وهي ممارسات اعتادت عليها، حسب التجارب، أنظمة غير ديمقراطية تتبنى سياسات تمييزية ضد بعض مكونات شعبها.

ولذلك فمن الضروري عند الحديث عن هذا المبدإ القانوني التذكير بأن إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1514 لا يشرع فقط للحق في الانفصال، كما تحاول بعض الأنظمة ذات النزعة التوسعية إيهام الرأي العام الدولي لتمرير مخططاتها الرامية إلى تقسيم الوحدة الترابية لجيرانها، وإنما يتضمن ما يؤكد ويؤيد من الناحية العملية وحدة أراضي الدول وسيادتها انطلاقا من قناعة واضعيه بضرورة احترام الروابط التقليدية القائمة والمتشابكة بين المكونات المختلفة الأعراق أو الثقافات أو الديانات المتعايشة في رقعة جغرافية واحدة، وهو التوجه الذي أكده فيما بعد إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر يوم 13 سبتمبر 2007 بشأن حقوق الشعوب الأصليةLes Peuples Autochtones.

وفيما يبدو، فإن أولوية تقرير المصير الداخلي كانت هي العامل الرئيسي الذي فسر به بعض فقهاء القانون الدولي التفهم الذي أبداه المجتمع الدولي وخاصة القوى الكبرى لاستخدام روسيا للقوة لإخماد الانتفاضة التي كانت تحمل نزعة انفصالية في الشيشان، فضلا عن تقبل الإجراءات التي تم بمقتضاها توحيد ألمانيا من دون استشارة سكان القسم الشرقي، الذي كان دولة قائمة الذات قبل انتفاضة شعبه.

وتستند هذه الأولوية إلى أن التجارب أثبتت، كما في حالة اتحاد ميانمار، أن حق تقرير المصير الداخلي هو الحل الأكثر قدرة على تحقيق معادلة احترام تطلعات بعض الجماعات البشرية دون المساس بالوحدة الترابية والترابط الإقليمي للدولة المعنية، خاصة إذا صيغت وثائق تطبيقه بطريقة تضمن بشكل واضح حقوق الإنسان وحرياته، وتتيح له المشاركة الإيجابية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عموم تراب هذه الدولة، والتدخل في تدبير موارده الاقتصادية وثرواته الطبيعية.

وغير خاف على أحد أن هذا هو ما يحصل بالضبط في أقاليم الصحراء المغربية، التي لم تفوت ساكنتها أي فرصة سياسية أو انتخابية لممارسة حقها في تسيير الشأن العام الوطني، وهذا هو جوهر مبادرة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب منذ سنة 2007 لإيجاد حل للنزاع المفتعل في شمال غرب إفريقيا، خاصة بعد أن أقرت الأمم المتحدة نفسها باستحالة إجراء استفتاء للسكان.

وأما الزخم السياسي والدعم الدولي المتواصل والمتنامي لهذه المبادرة التي يؤكد مجلس الأمن الدولي دوما أنها مبادرة جدية وذات مصداقية يبدو من المستغرب مواصلة هذا المجلس، وكذا اللجنة الرابعة معالجة قضية الصحراء المغربية من منظور تقرير المصير وتصفية الاستعمار، علما بأن كافة أجهزة ومؤسسات الأمم المتحدة على دراية كاملة بأن التطورات على الأرض تؤكد وبرضا أغلبية السكان بأن مصير الإقليم قد تحدد منذ مدة، وباحترام تام لمختلف المفاهيم المعروفة عن حق تقريرالمصير في الفقه الدولي، ناهيك عن اعتراف الكثير من الدول بمغربية الصحراء، المتجسد في افتتاح بعضها لمراكز قنصلية وأخرى لمكاتب تجارية وملحقات ثقافية بكبرى حواضر المنطقة.

وعليه، ولطي هذا الملف المستنزف لعموم دول المنطقة، فإن الواجب يقتضي القيام بتحركات دبلوماسية مكثفة وفعالة بعيدا عن الفرقعة الإعلامية لتعبئة ما يكفي من أصوات الأشقاء والأصدقاء بغية سحب مناقشة هذه القضية على الأقل من اللجنة الرابعة (لجنة تصفية الاستعمار)، لأن الصحراء المغربية لم تعدمستعمرة منذ استرجاعها سنة 1975.

تحية وسلام ليك يا رمال العرقوب ويا جبال كركر.  

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة