النموذج التنموي الجديد: هل ما زال هناك من يتذكره؟

بعد عمل ميداني متواصل لأزيد من سنتين قامت اللجنة المكلفة بوضع مشروع نموذج تنموي جديد للمغرب بالإعلان في شهر أبريل سنة 2021 عن الصيغة النهائية لهذا النموذج، الذي يفترض فيه أن يكون قادرا على الاستجابة للمطالب الملحة والحاجيات المتزايدة للمواطنين، وأن يمثل منظورا مغايرا لمفهوم ومحتوى التنمية كفيل بمواكبة التطورات المحلية والعالمية، وبالحد من الفوارق والتفاوتات المختلفة، وتسريع وتيرة تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية والمجالية أيضا بغية وضع المغرب على سكة سليمة تقوده نحو المستقبل بكل ثقة في سياق عالم متغير  يشهد تطورات دراماتيكية مطبوعة بعدم اليقين.

وامتثالا لما أمر به صاحب الجلالة الملك محمد السادس من ضرورة العمل بتجرد وموضوعية ونقل الواقع الميداني كما هو معاش فعلا مهما كان قاسيا أو مؤلما يحسب لأعضاء هذه اللجنة ذات الطابع الاستشاري حرصهم على القيام بتشخيص شامل لأعطاب التنمية في المغرب منذ الاستقلال، بعيدا عن أي محاولة لتنميق الواقع المر، الذي عبرت عنه صراحة فئات عديدة من المواطنين والمواطنات الذين التقت اللجنة بهم، خاصة فيما يتعلق بالمخاوف المرتبطة بالمستقبل نتيجة ما لاحظته من غياب الثقة في أدوار المؤسسات العمومية، وفي قدرتها على السهر على الصالح العام، ناهيك عما صدر عنها من إجراءات نجحت في تعطيل كل آليات الارتقاء الاجتماعي بشكل تنامى معه تذمر شعبي كبير من هذه المؤسسات.

ولم تكتف اللجنة المذكورة بالتشخيص الشامل للواقع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد، ولكنها من أجل ترسيخ النموذج التنموي الذي اقترحت محاوره الأساسية، ومجالاته المختلفة وذات الأولوية في التنفيذ وأوضحت الخطوط العريضة لكيفية تمويل إنجاز تلك المشاريع، طالبت بضرورة ترجمة هذا النموذج في صيغة ميثاق وطني للتنمية من شأن بلورته سريعا أن تمثل لحظة مجتمعية توافقية تسمح بانخراط جميع الفاعلين، وكافة القوى الوطنية الحية السياسية منها والاقتصادية، وكذا النقابات العمالية والمهنية في مسيرة إنجازه.

ولكن، وبعد مرور ثلاث سنوات على صدور النموذج التنموي الجديد، فإن ما جاء فيه من توصيات وما تضمنه من مشاريع مقترحة للتنفيذ، وما تمت المطالبة بوضعه من آليات لم يتجسد بعد على أرض الواقع، وظل كما كان في البداية مجرد حبر على ورق، بل يبدو أنه دخل غياهب النسيان، إذ لم يعد موضوعا لأي نقاش عمومي أو أكاديمي نخبوي، ولا أحد يذكره أو يتذكره حتى في الذكرى السنوية لصدوره، التي مرت في أبريل الماضي مرور الكرام.

فالملاحظ أن مؤسسات الدولة البرلمانية والحكومية على حد سواء لم تبلور لحد الآن مسودة ميثاق التنمية المنتظر، ولا إرهاصات على ذلك في المدى المنظور، إذ تبدو تلك المؤسسات مستغرقة في معالجة مشاكل التدبير اليومي لشؤون البلاد بلا رؤية وبلا قدرة على استشراف المستقبل كما كانت تأمل مقترحات النموذج التنموي، فيما بقيت النقابات العمالية والمهنية وفية لمساعيها ذات الطابع الآني والمستعجل المركزة بشكل أساسي على وقف تآكل القدرة الشرائية للطبقات العاملة، ومنع الإجهاز على بعض مكتسباتها، ولم يثبت قط أنها ألحت على اقتراح تنفيذ مقتضيات النموذج التنموي.

إن هذه الملاحظة الأخيرة أثارت أيضا انتباه عدد من مراكز الأبحاث المختلفة التخصصات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وبعض البعثات الدبلوماسية المعتمدة بالمغرب، التي أبدت الاستغراب أيضا من غياب حملة إعلامية ودبلوماسية متواصلة للتعريف بمحتوى هذا النموذج ، علما بأنه يضع في صلب أدوات نجاحه تقوية الشراكات الدولية للمملكة القائمة منها، والمطلوب إنجازها لما في ذلك من آثار إيجابية على صعيد توسيع دائر الأسواق الخارجية للمنتجات المغربية، وتحفيز التجارة البينية، فضلا عن استقطاب الاستثمارات الأجنبية، وتعبئة الموارد التمويلية اللازمة لإنجاز المشاريع المتضمنة في النموذج بالانفتاح أكثر على المؤسسات المالية الدولية المتعددة، وإثارة اهتمام الصناديق السيادية الاستثمارية العربية منها والأجنبية.

والمستغرب أكثر في هذا الإطار هو صمت قوى المجتمع المدني عن الإلحاح في المطالبة ببدء تنفيذ محتوى النموذج التنموي، لما يعقد عليه من آمال في رفع مستوى النمو بشكل يسمح بامتصاص نسبة مهمة من أرقام البطالة المرتفعة خاصة في أوساط الشباب، ولاسيما تلك القوى التي دعيت للمشاركة في المناقشات الواسعة التي أجراها أعضاء اللجنة المكلفة بوضع النموذج مع مختلف الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين في البلاد.

لهذا من الطبيعي أن ينعكس هذا الصمت، وذاك التجاهل لمقتضيات النموذج التنموي في شكل لامبالاة من مختلف شرائح المجتمع، لامبالاة تكاد أن تكون عامة، وتعتبر تجسيدا لأبرز الانتقادات التي وجهت لهذا النموذج المتمثلة أساسا في عدم تركيزه بما يكفي على دور الإنسان في إنجازه، انطلاقا من أن أي مجهود للتنمية لن يكون له معنى ما لم يكن الإنسان وسيلته وغايته في آن واحد. فهو وسيلة عندما يكون هو الفاعل الرئيسي في مسار بناء مقومات الاقتصاد الناجح والمجتمع السليم، وهو غاية لأن الهدف الأسمى لأي مشروع تنموي هو السعي إلى تطوير وتحسين ظروف معيشته وتوفير الحد الأدنى من مستلزماتها على كافة المستويات. فالعديد من التجارب العالمية كشفت بأن النماذج التنموية التي لم تأخذ بعين الاعتبار ضرورة فتح المجال أمام مشاركة شعبية واسعة في إنجاز برامجها كانت عديمة الجدوى، ومن قبيل الهدر ليس إلا، هدر للوقت وللإمكانيات المادية والمالية.

إن هذا المآل الراهن للنموذج التنموي الجديد يدفع في اتجاه التساؤل عما إذا كان هذا التعاطي الأقرب للسلبية معه لا يخالف ما جاء في التوجيهات الملكية السامية الواردة في خطاب العرش لسنة 2019، التي أكدت على ضرورة “…التحلي بالحزم والإقدام، وبروح المسؤولية العالية في تنفيذ الخلاصات والتوصيات الوجيهة التي سيتم اعتمادها ولو كانت صعبة ومكلفة”.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة