الهجرة السرية: داء استنزف كل وصفات العلاج

احتضنت العاصمة الإيطالية روما يوم 23 يوليوز 2023 مؤتمرا دوليا للتنمية والهجرة بحضور أزيد من 20 دولة، وممثلين عن عدد من المنظمات الدولية المهتمة بالهجرة واللاجئين إضافة إلى الاتحاد الأوروبي، الذي غاب عن المؤتمر بعض أعضائه المعنيين مباشرة بهذا الموضوع وما يتفرع عنه من مشاكل أمنية واجتماعية وغيرها، كما هو الشأن بالنسبة لفرنسا، التي لم تفصح علانية عن أسباب غيابها.

لقد تم انعقاد هذا المؤتمر، الذي اعتبرته رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني المبادرة الأولى من نوعها في هذا الإطار وبهذا الحجم، بعد حملة دبلوماسية مكثفة للسلطات الإيطالية ركزت فيها على سعي بلادها ليس فقط إلى تعزيز المواجهة الأمنية الصرفة لجحافل الهجرة غير النظامية القادمة إليها من السواحل التونسية والليبية، وإنما على عزمها وضع خارطة للاستثمار والتنمية في منطقة البحر الأبيض المتوسط بضفتيه، وفي القارة الإفريقية كذلك.

إن الرغبة الإيطالية في جعل هذا المؤتمر نقطة انطلاق مسار جديد برؤى جديدة وغير مسبوقة في التعاطي مع ظاهرة الهجرة غير النظامية، وذلك بالعمل على معالجة أسبابها العميقة لا فقط الكوارث الإنسانية الناجمة عنها وجدت دعما كبيرا من معظم شركاء روما في الاتحاد الأوروبي ومن دول جنوب البحر الأبيض المتوسط، وفي مقدمتها تونس، التي تعاني من تدفق للمهاجرين واللاجئين بات يمثل عبئا ماديا وأمنيا عليها، إضافة إلى بعض الدول المانحة، التي تميز من بينها الحضور الإماراتي ممثلا برئيس الدولة شخصيا، الذي تعهد بالتبرع ب100 مليون دولار تجسيدا منه لروح الشراكة الاستراتيجية المتعددة والمتنوعة المجالات بين بلده وإيطاليا.

وبالفعل، يمكن أن نجد في بعض نتائج المؤتمر نوعا من التطور الإيجابي في التعاطي مع ظاهرة الهجرة غير النظامية، إذ لوحظ بروز وعي بضرورة النظر لها في إطار شامل يتناول مختلف أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وليس الأمنية فقط، إضافة إلى إيلاء العناية مستقبلا وبشكل مكثف للاستثمار في الطاقات المتجددة، ولمواجهة التغيرات المناخية، وانعكاساتها السلبية المتجلية في انحباس سقوط الأمطار، وانتشار التصحر وتقلص رقعة الأراضي الصالحة للزراعة، وذلك لأنها باتت من أكثر العوامل الطاردة للسكان من بلدانهم.

وحسب عدد من المراقبين، فإنه إذا ما تم تنفيذ مخرجات مؤتمر روما بجدية ومصداقية وضمن آليات جماعية للتعاون والتنسيق والمتابعة بعيدا عن المبادرات المحصورة بين دولتين أو ثلاث فقط، فإن من الممكن أن يشكل هذا المؤتمر نقلة نوعية في جهود معالجة ظاهرة الهجرة غير النظامية، خاصة بعد أن تم تسجيل بعض التخلي عن خطاب التعالي الأوروبي المهووس بالأمن، والمتوجس من الخلفيات الحضارية والدينية للمهاجرين لفائدة حديث بدأت نبرته تعلو شيئا فشيئا عن وجود حاجة أوروبية لليد العاملة الأجنبية، ولكن حسب الحاجة ووفق ضوابط قانونية.

ومقابل هذه النظرة الإيجابية لمؤتمر روما، وما تمخض عنه من نوايا حسنة برزت مجموعة تخوفات من أن يغدو هذا المؤتمر، بعد تلاشي وقعه الإعلامي، مثل مؤتمرات عديدة سبقته في هذا المجال دون أن تحقق أي نجاح يذكر في التعامل مع الهجرة غير النظامية وتبعاتها.

وتستند هذه التخوفات على مجموعة من العوامل يمكن إيجازها فيما يلي:
*تضاعف أعداد راكبي قوارب الموت رغم كل الجهود المبذولة للحد من الظاهرة، وتناسل أماكن انطلاق مغامرات الهجرة غير النظامية، التي لم تعد محصورة في غرب البحر الأبيض المتوسط فقط، وإنما امتدت إلى شرقه، كما امتدت إلى المحيط الأطلسي. فبالنسبة لإيطاليا على سبيل المثال بلغ عدد الواصلين إلى شواطئها في النصف الأول من سنة 2023 أكثر من 75 ألف نسمة، بينما لم يتجاوز في نفس الفترة من سنة 2022 حوالي 32 ألف.

“تفضيل الكثير من الدول الأوروبية اللجوء إلى أسلوب إبرام الاتفاقيات ذات الطابع الثنائي مع كل دولة من جنوب المتوسط على حدة بدلا من الالتزام في إطار معاهدات جماعية، وذلك نتيجة عدم وجود إجماع أوروبي على سياسة موحدة للتعامل مع الظاهرة، المتزامن مع غياب الحد الأدنى من التنسيق بين بلدان جنوب البحر الأبيض المتوسط رغم أنها جميعا غدت منطقة متعددة الاستعمالات بالنسبة للمهاجرين من جنوب الصحراء، فهي منطقة عبور بالنسبة للبعض، ومأوى ومستقر للبعض الآخر مع ما يحمله ذلك من أخطار تتهدد التركيبة السكانية لبعض تلك البلدان.

*تعمد تغييب الأبعاد السياسية الكامنة هي أيضا وراء توسع الظاهرة. وتتمثل هذه الأبعاد في أن بلدان المهاجرين إما بلدان تسيرها أنظمة دكتاتورية مستبدة بلا سياسات تنموية جادة وينخر مؤسساتها الفساد والمحسوبية أو بلدان ما زال انتقالها الديمقراطي هش ومتعثر، مما يساهم في امتداد رغبة الهجرة إلى نخب يفترض فيها أن تكون هي من تقود الجهود التنموية في أوطانها، كما يساهم في ازدهار تنظيمات الاتجار بالبشر العابرة للحدود.

في هذا السياق من غير المستبعد أن تساهم الفورة الآنية لنتائج مؤتمر رومافي تقلص أعداد المخاطرين بأنفسهم، الذين سيكمنون لبعض الوقت إدراكا منهم بأن بعد أي مؤتمر يتم تكثيف جهود اليقظة الأمنية في ضفتي المتوسط، ولكن هذه النتائج لن تنجح أبدا في وقف الظاهرة أو الحد منها بشكل كبير، ذلك لأن دوافع المغامرة ما تزال وستظل قائمة، ولأن النفس البشرية بطبيعتها تواقة إلى التغيير.

إن تاريخ البشرية هو تاريخ هجرة وتنقل مهما كان الوصف الذي أعطي للظاهرة، فلولا الهجرة التي ارتدت طابع الفتح بالنسبة للإسلام، وطابع التبشير بالنسبة للمسيحية  ما كانت هاتين الديانتين السماويتين لتنتشرا في أرجاء المعمورة، ويعتنقها ملايين البشر، ولولاها ما كانت الولايات المتحدة الأمريكية ودول أمريكا اللاتينية لتكون كما هي الآن، رغم أن موجات الهجرة إليها امتدت لقرون ولم تكن منظمة، بل إن معظمها كان قسريا، وفي أشكال مختلفة كالنفي والاختطاف والعبودية.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة