بوتين يبتكر “Gulag” جديدا لمعارضيه

الجولاج، او ال Gulag، معناها المديرية الرئيسية لمعسكرات الاعتقال. يوضع فيها المهندسون، والسياسيون، والأساتذة، وغيرهم من المعتقلين بدون أن توجه إليهم أي تهمة، وكانت تعتبر معسكرات عمل، قضى فيها ما يزيد عن 18 مليون معتقل نحبه، ظهرت في عهد لينين، وازدهرت في في عهد ستالين.

قبل عام واحد، أَمَـرَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بشن “عملية عسكرية خاصة” في أوكرانيا، كان المفترض أن الغرض منها حماية سكان منطقة دونباس الشرقية وضمان “نزع سلاح أوكرانيا وتطهيرها من النازية”. فضلا عن هذا، شن بوتن أيضا هجوما على الثقافة الثرية التي يتمتع بها بلده، والتي بات العالَـم رافضا لها الآن.

من غير الممكن بالطبع أن نساوي بين خسارة الروس لوظائفهم وخططهم للمستقبل واتصالاتهم الدولية من ناحية والخسائر التي تكبدها الأوكرانيون في مواجهة الدبابات والقنابل الروسية على الجانب الآخر. مع ذلك، كان التأثير الذي خلفته الحرب على الثقافة الروسية، والحملة التي يشنها بوتن على الفنانين والمؤدين، سببا في إثارة تساؤلات جوهرية حول مستقبل واحدة من أكبر القوى في العالم.

منذ بدأت الحرب، حذرت من أن “إلغاء” الأحداث الثقافية والتبادلات الروسية كشكل من أشكال العقاب الجماعي قد يأتي بنتائج عكسية، سواء بتقييد القدرة على الوصول إلى المعلومات حول نوايا بوتن أو الظهور بمظهر يؤكد روايته بأن الغرب يسعى إلى تدمير روسيا. لكن أي طرف خارجي من غير الممكن أن يلحق بالروس مثل ذلك القدر من الضرر الذي تلحقه بهم حكومتهم.

صحيح أن هذا ليس عصر ستالين، عندما كان الناس يتوقعون إرسالهم إلى جولاج، أو غولاغ (معتقل أو معسكر عمل إلزامي للسجناء السياسيين في الاتحاد السوفييتي السابق) أو قتلهم لانتقادهم النظام. لكن من المعروف أن منتقدي بوتن يمرضون فجأة ــ أو يسقطون من نافذة. وحتى عندما يتجنب المنتقدون مثل هذا المصير الحاسم، فقد تؤدي معارضة الحرب الدائرة في أوكرانيا علنا إلى تدمير حياة المرء بوسائل أخرى.

عندما أعربت أسطورة الغناء الشعبي الروسية آلا بوجاتشوفا ــ التي ذاعت شهرتها في سبعينيات القرن العشرين حت أن الروس كانوا يمزحون قائلين إن “ليونيد بريجينيف كان سياسيا في عصر بوجاتشوفا” ــ عن أسفها على وسائط التواصل الاجتماعي لأن الجنود الروس “يموتون من أجل أهداف وهمية تجعل بلدنا منبوذا”، مُـنِـعَـت أعمالها من الإذاعة والتلفزيون. وعندما أطلق الموسيقي الأسطورة في عالَـم الروك، يوري شيفتشوك، نداء مناهضا للحرب في حفل موسيقي ــ معلنا أن الوطن “ليس مؤخرة الرئيس، التي يجب تقبيلها في كل وقت” ــ جرى تغريمه بتهمة “تشويه سمعة القوات المسلحة الروسية” وألغيت عروضه اللاحقة.

لا تكتفي السلطات الروسية بإخراس أصوات الشخصيات البارزة. أثناء وجودي في موسكو في ديسمبر/كانون الأول، شاهدت شخصيا الشرطة وهي تعتقل بعض موسيقيي الشوارع لأنهم كانوا يقدمون أغنية شيفتشوك من عام 1989، “Motherland”، التي حذرت من عودة جهاز الاستخبارات السوفييتي (KGB)، والتي كتب لها الآن تكملة بعنوان “Motherland, Come Home”، يطالب فيها بإنهاء الحرب في أوكرانيا.

الكوميديون أيضا من الأهداف الطبيعية. مؤخرا، اعتبرت وزارة العدل الروسية مكسيم جالكين ــ زوج بوجاتشوفا ــ “عميلا أجنبيا” بعد أن تحدث علنا ضد الحرب. (استُـخـدِم ذات التوصيف لمضايقة أو إسكات 262 منفذا إعلاميا مستقلا وأكثر من 300 من العاملين في الصحف والناشطين، فضلا عن منظمات حقوق الإنسان مثل “مجموعة هلسنكي في موسكو” ومؤسسة “ميموريال”، ومدرسين في جامعات مثل كلية موسكو للعلوم الاجتماعية والاقتصادية).

في عالَـم المسرح، طُـرِدَ الزوجان دميتري نزاروف وأولجا فاسيليفا ــ يمثل الاثنان في مسرح موسكو للفنون ــ بعد أن تحدثا علنا ضد الغزو. كما أزيلت جميع مسرحيات الممثلة المخضرمة المعروفة ليا أخيدزاكوفا من قائمة الأعمال التي يقدمها المسرح المعاصر.

لا تزال مسرحيات أحد أبرز الكتاب المعاصرين في روسيا، بوريس أكونين، تُـعَـرَض حتى الآن، لكن اسمه حُـذِفَ من الملصقات أو الإعلانات عن الحفلات، بسبب انتقاده للحرب. كما حُـذِفَ أيضا اسم أحد كبار المخرجين المسرحيين، دميتري كريموف، من الأعمال التي أخرجها، مع تأجيل عرض أعمال أخرى له.

تعتبر وزارة الثقافة مثل هذه القرارات “منطقية تماما”، بزعم أن الأشخاص المعاقَـبين “تخلوا عن روسيا” في “وقت عصيب”، و”عارضوا علنا ثقافتها الثرية”. في مثل هذا العالَم الأشبه بعالَـم أورويل الـمُـخـتَـل الفاسد الذي أصبحت عليه روسيا الحديثة، تُـعَـد معارضة الحرب، مع المساهمة في الثقافة، مُـعارَضة للثقافة ذاتها. وهنا، يصبح الفن بلا فنانين، ويتحول منتقدو الكرملين إلى أحياء بلا حياة.في بعض النواحي، تعتبر روسيا بوتن أقل تسامحا من روسيا ستالين ثقافيا. من الأمثلة الواضحة على ذلك مؤخرا، طرد زيلفيرا تريجولوفا، مديرة معرض تريتياكوف. السبب المعلن أن مواطنا يُـدعى سيرجي اشتكى إلى وزارة الثقافة أن المعرض الذي زاره في تريتياكوف “لا يتوافق تماما” مع سياسة الدولة “في الحفاظ على القيم الروحية والأخلاقية الروسية التقليدية وتعزيزها”.

من مشاهد “السكيرين المخمورين” إلى “وجود عناصر اجتماعية هامشية”، رأى سيرجي ــ الذي ربما يكون من صُـنع الكرملين ــ علامات تدل على “إيديولوجية مدمرة” بثت في نفسه مشاعر التشاؤم واليأس. طُـلِـبَ من تريجولوفا أن تدافع عن امتثال المعرض للقيم الروحية والأخلاقية الروسية. ورغم أن تريجولوفا لا تنتقد بوتن أو حربه، فإن أي تفسير كانت لتقدمه كان ليحكم عليه بوضوح بأنه غير كاف: وعلى هذا فقد جاء فصلها بحجة أن عقدها انتهى.

أثناء حقبة ستالين، كانت دعاية “السوفييتي السعيد” مكثفة: بينما كان الناس يموتون جوعا في المزارع الجماعية، كان الفنانون يرسمون مشاهد الرخاء. ولكن بعد ستالين، بدأ تخفيف سيطرة الدولة على الفنون بعض الشيء. على سبيل المثال، في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، قدم مسرح تاجانكا في موسكو العديد من الأعمال التي أزعجت السلطات، وربما حتى جرى حظر تقديمها، لكن مدير المسرح يوري لوبيموف سُـمِـح له بمواصلة عمله في موسكو حتى عام 1984.

لا شك أن الاتحاد السوفييتي لم يكن مَـعقِـلا للحرية الفنية. فقد جُـرِّدَ لوبيموف من جنسيته في نهاية المطاف، الأمر الذي اضطره إلى الانضمام إلى فنانين مثل ألكسندر سولجينتسين وجوزيف برودسكي في المنفى. ولكن إذا كان بوتن يمارس القمع ضد الثقافة بذات القسوة التي شهدناها في الحقبة السوفييتية، فإن هذا يعني أن روسيا أوغلت في غيها حقا.

كانت الشرطة البلشفية السرية تفرض قبضتها الـمُـهلِـكة على المجتمع، على الأقل، من أجل نقل روسيا المتخلفة من عصر القياصرة إلى المستقبل الصناعي ــ بل وحتى إلى الحدود التكنولوجية في بعض المجالات.

إذ كانت روسيا على الرغم من كل شيء أول دولة تطلق قمرا صناعيا، وأول دولة ترسل بشرا إلى الفضاء. على النقيض من ذلك، لن تنجح حملة قمع الثقافة التي يشنها بوتن الآن إلا في الدفع بروسيا تتقهقر إلى ماضيها المظلم.

نينا إل خروشوفا

أستاذة الشؤون الدولية في المدرسة الجديدة، شاركت في تأليف كتاب (مع جيفري تايلر) ، مؤخرًا، على خطى بوتين: البحث عن روح إمبراطورية عبر إحدى عشر منطقة زمنية في روسيا