جاليات المهجر: ثروة المغرب “المهملة”

في ظل تعقد العلاقات الدولية وتشابكها، وتعدد وتشعب مجالاتها لم تعد الدولة ولا المنظمات الدولية العامة الأهداف وكذا المتخصصة هي الفاعل الوحيد والرئيسي في هذه العلاقات، بل اتسعت دائرة الفاعلين فيها، وفيما يعرفه المجتمع الدولي من ديناميكية سريعة لتشمل شركات عملاقة متعددة الجنسيات، وتنظيمات غير حكومية عالمية التوجه، ومتنوعة الأنشطة اجتماعيا وإنسانيا وبيئيا، فضلا عن العديد من الأحزاب السياسية والميليشيات الأمنية والعسكرية، والحركات المتطرفة الإرهابية العابرة للحدود، التي تجاوزت أدوار بعضها دور الدولة التي تنتمي إليها، بل صارت في بعض الحالات  قادرة على إملاء أجنداتها على المؤسسات الرسمية لتلك الدولة، وتوظيفها لتحقيق غاياتها.

وللتعامل مع هذه الوضعية الراهنة للعلاقات الدولية المتسمة بتسارع الأحداث، وتضارب المصالح، وما تفرزه من تباين وتناقض في المواقف أحيانا بشكل ساعد على تنامي تدخل الفاعلين الجدد، الذين لا يخضعون لقواعد القانون الدولي ولا يأبهون بها، في الساحة الدولية، بات من الضروري على الدول العمل على تنويع آليات تنفيذ سياساتها الخارجية لكي لا تظل محصورة في الآليات الدبلوماسية التقليدية الممثلة في وزارة الخارجية والبعثات الدبلوماسية والقنصلية، وفي مؤسسات الدولة الرسمية كرئاسة الدولة والبرلمان وغيرها من الأجهزة الحكومية.

وإذا كان إشراك الهيئات والجمعيات ذات الطبيعة الاقتصادية والمالية والتجارية والاستثمارية في آليات صنع القرار السياسي الخارجي، وفي تنفيذه قد بات مألوفا، فإن الظاهرة التي غدت لافتة للانتباه أكثر منذ تسعينيات القرن الماضي رغم قدمها هي ظاهرة بروز دور بعض الجاليات المهاجرة “الدياسبورا” في صلب العلاقات الدولية تارة كعنصر توتير للعديد من العلاقات الثنائية، وطورا كأداة لخدمة بعض أهداف السياسة الخارجية المصيرية، وخاصة تلك الأهداف السياسية المصيرية والغايات التنموية بالنسبة لدول كثيرة.

إن صعود هذه الظاهرة إلى واجهة الكثير من الأحداث الدولية ينبع من أهمية الأدوار التي لعبتها بعض هذه الجاليات، ليس فقط في صيانة مقومات هويتها الأصلية، ووعيها الجمعي في البلدان التي تستضيفها، وإنما في الحفاظ على وشائج عاطفية وروابط عقائدية وثقافية وعلاقات نفعية مع أوطانها الأم، وبصفة خاصة تلك الجاليات المحكمة التنظيم، والمؤطرة في جمعيات وتجمعات نشطة ومتماسكة، سواء تعلق الأمر بالجاليات ذات الصبغة الدينية التي عاشت في الشتات أو ذات الصبغة القومية التي غادر معظمها الوطن الأصلي مضطرا أو مكرها لأسباب متفاوتة تتراوح بين الفرار من القمع والتنكيل لأسباب سياسية، وبين الرغبة في تحسين الظروف المعيشية أو التطلع لتحقيق الطموحات العلمية والمعرفية.

في هذا السياق تبرز نماذج متعددة للأدوار الناجحة التي لعبتها وما تزال جاليات عديدة في المهجر لفائدة بلدانها الأصلية أو لخدمة انتماءاتها الدينية أو العرقية داخل الدول المستضيفة لها، من خلال الضغط على المؤسسات صانعة القرار لتبني قرارات سياسية أو اقتصادية ومالية داخلية أو في المحافل الدولية تخدم أهداف الجهات التي تنتمي إليها تلك الجماعات، وذلك على أكثر من صعيد:

*الصعيد السياسي لنصرة القضايا المصيرية لتلك الجهات، وتأمين الدعم اللازم لها كما هو حال معظم الجاليات اليهودية في مختلف بلدان الشتات بالنسبة لإسرائيل، وكذا الجاليات الأرمينية التي استطاعت انتزاع قرارات في معظم الدول الغربية الكبرى تدين تركيا بما تسميه الإبادة الجماعية للأرمن خلال العهد العثماني سنة 1915.

*الصعيد الاقتصادي وفيه تتراوح جهود الجاليات بين الإسهام في تطوير التبادل التجاري مع بلدان المقر، وبين تأمين تحويلات مالية مهمة نحو بلدانها الأصلية بشكل يساهم في نمو موارد تلك البلدان من العملة الصعبة، ناهيك عن الترويج لها سياحيا وثقافيا، وضخ استثمارات جيدة فيها، ولاسيما في المجال العقاري. وحسب عدد من المراقبين، فإن أبرز الأدوار في هذا الإطار تعود للجاليات الهندية المنتشرة عبر أرجاء العالم، وخاصة في دول الخليج العربي.

إن أهمية ونجاعة بعض الأدوار التي لعبتها عدة جاليات في الشتات لفائدة بلدانها الأصلية أو لصالح انتماءاتها الدينية والعرقية شكلت حافزا أساسيا لمعظم الدول المصدرة للهجرة بكل أنواعها إلى العمل على تبني مقاربات متعددة

الأوجه تأمل من خلالها تحقيق توظيف أمثل لرعاياها في الخارج، ولاسيما حيث الأعداد كبيرة ومساحة الحركة واسعة ومشروعة من الناحية القانونية.

ولم يكن المغرب بمنأى عن هذا التوجه العالمي العام خاصة إزاء جالياته المنتشرة في دول أوروبا الغربية، بل ربما استوعب مبكرا ومنذ نهاية ستينيات القرن الماضي أهمية الأدوار التي يمكن أن تلعبها هذه الجاليات. ولكن التجارب بينت بأن الحكومات المغربية المتعاقبة لم تكن لديها استراتيجية واضحة المعالم للتعامل مع هذه الجاليات ولكيفية استقطابها، وتوظيفها عند الحاجة.

لا أحد يستطيع تجاهل الجهود الكبيرة التي بذلت على مدى عقود من الزمن لتطوير التواصل الحكومي مع الجاليات المغربية في الخارج، جهود إدارية تمثلت في العمل على تقريب المراكز القنصلية ما أمكن من هذه الجاليات، وتزويدها بأطر متعددة الاختصاصات إما دائمة الإقامة كالعدول أو مؤقتة كأئمة المساجد، ناهيك عن حث الأبناك الوطنية على فتح فروع لها بالقرب من المراكز القنصلية وأحيانا داخلها لتسهيل فتح الحسابات البنكية والتحويلات المالية، وعن فتح عدد من المدارس والمراكز الثقافية لتقين اللغة العربية وتاريخ المغرب للناشئة.

ومع ذلك، وباستثناء ثبات التأطير الإداري إضافة إلى ما يمكن تسميته بالتأطير الأمني الذي أملاه في البداية تواجد معارضين سياسيين نشطين كان ينبغي على الأقل رصد تحركاتهم، ومدى تأثيرها على أمن البلاد، ثم فيما بعد متابعة تغلغل أفكار الجماعات الدينية المتطرفة ومحاولاتها استقطاب بعض المهاجرين من الشباب لصفوفها، فالملاحظ أن معظم المقاربات التي تمت تجربتها في التعامل مع جاليات المهجر اتسمت بالتذبذب وعدم الاستمرارية.

إن خير دليل على هذا التذبذب وعدم الاستمرارية يتجلى في تأرجح الرؤية السياسية للهيئة الحكومية المكلفة بهذه الجاليات، فتارة تتبدى لها أهمية الهيئة فيتم إعلانها وزارة قائمة الذات ومستقلة عن غيرها من الوزارات، وطورا وبدون أي تبرير يتم إلغاؤها لتندمج من جديد في وزارة الشؤون الخارجية. وقد اتضح من خلال الممارسة أن تبدل النظرة لهذه الهيئة لا يرتبط بالجالية أو بأدوارها، وإنما يدخل في إطار التجاذبات السياسية عند تشكيل الحكومات، حيث تستخدم هذه الهيئة غالبا لاسترضاء مكونات حزبية يكون من الضروري ضمان مشاركتها.

ورغم ذلك، وبغية الوصول إلى توظيف أمثل للجالية المغربية وكفاءاتها ومواهبها لصالح قضايا الوطن المصيرية وبرامجه التنموية من الممكن تجاوز وضعية التذبذب هذه، ووضع استراتيجية بعيدة المدى للاستفادة القصوى من إمكانيات جالياتنا بالخارج، وذلك بالشروع في تنزيل الرؤية الملكية المتكاملة التي تضمنها خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس في ذكرى ثورة الملك والشعب  يوم 20 غشت 2022، الذي انتقد بطريقة ذكية ولبقة، وفي شكل تساؤلات غياب علاقة هيكلية دائمة مع الجالية، وذلك بقوله:”ماذا وفرنا لهم لتوطيد هذا الارتباط بالوطن؟ وهل الإطار التشريعي والسياسات العمومية تأخذ بعين الاعتبار خصوصياتهم؟ وهل المساطر الإدارية تتناسب مع ظروفهم؟ وهل وفرنا لهم التأطير الديني والتربوي اللازم؟”

إنه ورش عمل كبير، فمتى تتوفر الإرادة الحكومية للشروع فيه؟.