قطاع غزة: رؤية غربية لما بعد المواجهات العسكرية

في ظل استمرار المواجهات العسكرية الدامية الدائرة منذ 7 أكتوبر 2023 بين الجيش الإسرائيلي من جهة، ومقاتلي الفصائل الفلسطينية الإسلامية في غزة من جهة أخرى، وعلى ضوء الخسائر المادية والمآسي البشرية المهولة التي تحدثها هذه المواجهة دون مراعاة أبسط قواعد القانون الدولي المتعلقة بالحروب، وأمام ظهور مؤشرات جدية على إمكانية توسع دائرة المواجهة إلى عموم منطقة الشرق الأوسط، سعت السلطات المصرية إلى محاولة احتواء هذا الصراع وحصره على أمل وقفه في المستقبل القريب من خلال دعوتها إلى قمة متعددة الأطراف احتضنتها القاهرة يوم 21 أكتوبر 2023 بحضور أزيد من 30 دولة ومنظمة دولية وإقليمية.

ورغم نبل المساعي الإنسانية والسياسية من وراء الدعوة لهذه القمة التي سميت “قمة السلام”، ومشاركة معظم القوى الدولية  الكبرى فيها، فإنها لم تحدث الأثر المطلوب من انعقادها باستثناء أنها شكلت منصة سياسية وإعلامية عبرت من خلالها مختلف الدول والمنظمات الحاضرة عن مواقفها وانشغالاتها، وخطورة الانعكاسات السلبية للمواجهة على عموم المنطقة، وهي مواقف تبين أنها متباعدة بل ومتضاربة حول بعض المواضيع التي نوقشت ؛ الأمر الذي انعكس في عدم القدرة على إصدار بيان رسمي يتضمن الحد الأدنى من القواسم المشتركة بين الحاضرين.

إن خيبة الأمل التي سادت بعد الإخفاق في صدور بيان رسمي مشترك بين كافة الحاضرين، لا يمكنها أن تخفي حقيقة مفادها أن هذا المآل الذي انتهت إليه قمة القاهرة كان منتظرا لعدة اعتبارات أهمها:
*غياب إسرائيل التي أبدت عدم اكتراث بالقمة، وبما سيناقش فيها، معلنة أنها لن توقف عملية السيوف الحديدية إلى حين تحقيق هدفها الأساسي المتمثل، كما تقول، في اجتثاث حركة حماس ومن يدور في فلكها من تنظيمات في قطاع غزة، وتدمير بينتها العسكرية بشكل كامل، غير آبهة بما ينجم عن ذلك من ضحايا بشرية وخسائر مادية طائلة.

*الحضور المتدني المستوى لبعض الدول، الذي اقتصر في حالة الولايات المتحدة الأمريكية على تسجيل الحضور فقط، وذلك من خلال إيفاد دبلوماسية من طاقمها الدبلوماسي المعتمد في القاهرة.

*انعقاد اجتماع أمريكي أوروبي رفيع المستوى قبل القمة ب24 ساعة فقط تجاهل مطلقا الإشارة إلى إمكانية بذل جهود دبلوماسية لإقرار هدنة مستدامة ولو بطابع إنساني، مؤكدا قبل أي شيء وبشكل مطلق على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.

وفيما يبدو، فإن الجانبين الأمريكي والأوروبي ترجما اصطفافهما خلف الأطروحة الإسرائيلية حول الصراع ليس فقط في الامتناع عن ممارسة أدنى ضغط ممكن على حكومة نتنياهو، التي يبدو أنها ما تزال أسيرة روح الانتقام التي تلبستها منذ اندلاع عملية طوفان الأقصى، وإنما في منع صدور بيان مشترك مع باقي الدول الحاضرة في قمة القاهرة خشية أن يتضمن ولو بشكل غير مباشر إدانة ناعمة لرد الفعل الإسرائيلي، مكتفين بالمطالبة بهدن متقطعة لتأمين إدخال بعض مواد الإغاثة لقطاع غزة، على أمل أن يساهم ذلك في إطلاق سراح الأجانب المحتجزين من طرف الجناح العسكري لحركة حماس.

وفي المعلومات المستقاة من مصادر متعددة، فإن الاصطفاف الغربي خلف إسرائيل الذي جسدته زيارات كبار قادة الغرب لتل أبيب، واستنفار قواتهم العسكرية لا يعود فقط إلى الخشية على أرواح المحتجزين من مواطنيهم، ولكن إلى منح الحكومة الإسرائيلية الوقت الكافي للتمكن من :
/ تحقيق نصر عسكري حاسم يمكن تسويقه للرأي العام الداخلي بغية مساعدة نتنياهو وبعض وزرائه من اليمين المتطرف على تفادي تداعيات موجة الانتقادات الشعبية المتصاعدة، والخضوع لتحقيق قضائي قد يفضي إلى محاكمتهم بتهمة التقصير، وهي تهمة تحيل في مخيال المجتمع الإسرائيلي إلى ما حصل لرئيسة الوزراء جولدا مائير عقب حرب أكتوبر 1973.

العمل على بلورة الخطوط العريضة لاستراتيجية عملية لكيفية التعامل مستقبلا مع قطاع غزة بعد تحطيم البنيات العسكرية والمؤسسات المدنية لحركة حماس، خصوصا في ظل تحفظ دولي واسع على أي عودة للاحتلال المباشر نظرا لكلفته المرتفعة، ولما يسببه من تآكل في مصداقية الدول التي تحبذ حصوله.

في هذا السياق تتحدث بعض المصادر عن مجموعة أفكار يتم تدارسها أمريكيا بشكل خاص لعل أبرزها تلك التي تدعو للعودة إلى مشروع بيغن للحكم الذاتي، ولكن بعد تنقيحه ليواكب كل التطورات والمستجدات التي عرفتها مختلف ساحات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

ويستند هذا المشروع الذي سبق وأن تبنته الحكومة الإسرائيلية في مايو 1979 على تشكيل سلطة للإدارة الذاتية تحت إشراف حاكم عسكري يتولى وحده مسؤولية المعابر والإشراف على الأمن العام بما في ذلك صلاحيات تحديد أعداد الشرطة المحلية ونوعية العتاد الذي تحمله.
وتكمن أهمية العودة لمشروع بيغن بدلا من العودة إلى اتفاق غزة أريحا أولا المبرم في سبتمبر 1993 في الرغبة لترسيخ تكريس واقع فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، الذي حصل بعد الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من غزة سنة 2005، وتسليم سلطة إدارتها لحركة حماس بعد تقزيم تواجد حركة فتح في القطاع، وفشل الحركتين معا في توحيد مواقفهما.

ويسود الاعتقاد لدى بعض هذه المصادر أن ضمان نجاح تطبيق هذه الأفكار يتطلب إيجاد تنظيم بديل لحماس والجهاد الإسلامي يتولى شؤون الحياة اليومية للسكان في قطاع غزة، وأن أقرب المرشحين من التيارات السياسية الصغيرة المتواجدة هناك هو تيار الإصلاح الديمقراطي، الذي يحظى بدعم في الخليج وقد لا تعترض مصر على توليه تلك المسؤولية نظرا لعلاقات قياداته الجيدة بالقاهرة.

لا شك في أن هذه الأفكار تستجيب إلى حد كبير لما تسميه إسرائيل متطلبات أمنية، ولكنها بعيدة عن وضع حجر أساس سليم لسلام دائم وعادل وشامل في المنطقة، وبذلك فهي تدخل في سياق استراتيجية قوامها مواصلة إدارة الصراع واحتواء تمدده، بدلا من المغامرة في تسويته.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة