كيف يمكن أن يساهم المغرب في تنمية القارة الإفريقية؟

في خطاب متلفز بمناسبة الذكرى 48 لانطلاق المسيرة الخضراء لاسترجاع أقاليم الصحراء اقترح صاحب الجلالة الملك محمد السادس إطلاق مبادرة على المستوى الدولي بغية فك عزلة دول منطقة الساحل والصحراء (مالي، تشاد، النيجر وبوركينافاصو)، وتمكينها من منفذ بحري من خلال الولوج إلى مياه المحيط الأطلسي، مشيرا إلى أن ذلك يتطلب تأهيل بنياتها التحتية، وربطها بشبكات النقل والتواصل بمحيطها الإقليمي، معربا عن استعداد المغرب لوضع بنياته التحتية الطرقية والبحرية والسكك الحديدية رهن إشارة تلك الدول.

ورغم الطابع الفجائي الذي ارتدته هذه المبادرة لكونها جاءت في سياق تخليد ذكرى وطنية محلية عزيزة على كل المغاربة رغم اختلاف توجهاتهم السياسية، وانتماءاتهم الفكرية، إلا أنها لم تكن مستغربة، إذ تأتي تعبيرا عن قناعة عميقة وراسخة لدى جلالة الملك محمد السادس بأن مشاكل تلك المنطقة، التي تمثل امتدادا ترابيا لأقاليم المغرب الجنوبية، لا يمكن حلها أمنيا وعسكريا فحسب، بل بالاعتماد أساسا على مقاربة تنموية تعاونية وتشاركية لا تستثني أي كيان من كيانات المنطقة إلا من أراد استثناء نفسه، وتوهم امتلاك القدرة على التغريد لوحده.

وغير خاف على أحد أن هذا الإيمان الملكي الصادق يكتسي طابعا شاملا لكل أرجاء القارة السمراء، من منطلق أن التحديات التي تواجه الشعوب الإفريقية هي تحديات مشتركة لا يمكن لشعب واحد مواجهتها بمفرده، خاصة وأنها متشعبة ومتعددة بعضها ذاتي المصدر تختلط فيه الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقبلية للمجتمعات الإفريقية، والبعض الآخر خارجي يرتبط بالتنافس المحتدم بين العديد من القوى الدولية الكبرى والقوى الاقتصادية الصاعدة عالميا على الحصول على موطئ قدم في القارة بغية السعي إلى اقتطاع نصيب من كعكة ما تختزنه من خيرات في باطن أرضها وفي البحار المحيطة بها، فضلا عن الرغبة في كبح جماح موجات الهجرة واللجوء التي باتت تؤرق العديد من الدول، وفي مقدمتها دول الاتحاد الأوروبي.

ولذلك، فإن عددا من المراقبين اعتبر المبادرة المغربية الجديدة تجاه منطقة تمثل قلب القارة السمراء تجسيدا آخر للاستراتيجية التي تبناها المغرب منذ مطلع الألفية الراهنة على غرار مشروع أنبوب الغاز (نيجيريا / المغرب)، تلك الاستراتيجية الشاملة والمتنوعة المجالات تهدف إلى تعزيز وتوطيد علاقات المغرب بجذوره الإفريقية ومنحها محتوى ملموسا قوامه الاعتماد على الذات من أجل تجاوز العوائق السياسية وتلك المرتبطة بتنامي الظاهرة الإرهابية، وتحويلها إلى فرصة للتضامن والتكامل بين الأفارقة أنفسهم، من أجل تحقيق الربح المشترك والحد من الفوارق بين مختلف جهات القارة.

وإدراكا من الدول المعنية لنبل مقاصد المبادرة المغربية البعيدة عن الحسابات السياسية والمصلحية الضيقة سارعت إلى تلبية دعوة عقد اجتماع تمهيدي للتنسيق بشأن الخطوات المستقبلية احتضنته مدينة مراكش يوم 23 ديسمبر 2023. اجتماع تميزت التصريحات وكذا البيان الصادر في ختامه بنبرة متفائلة ومشروعة رأت في المبادرة بارقة أمل من شأن إنجازها إحداث تحول اقتصادي للمنطقة برمتها بما يسهم في تسريع التواصل الإقليمي بين دولها، وفي مضاعفة حجم التدفقات التجارية من وإليها بشكل ينعكس إيجابيا على ظروف عيش سكانها، وعلى استتباب أمنها واستقرارها.

ورغم الصدى الإيجابي الذي حظيت به المبادرة في العديد من العواصم العالمية والرؤية الطموحة التي صدرت عن الاجتماع التمهيدي المذكور آنفا، إلا أن هذا الاجتماع لم يعرف لحد الآن أي متابعة لمخرجاته في وقت يتطلب تأمين نجاح المبادرة مواصلة التعريف بها، واستقطاب كل من موريتانيا والسنغال إليها باعتبارهما بلدان أطلسيان لديهما حدود مباشرة مع الدول المعنية، ولهما مصلحة مؤكدة في المساهمة في نجاح المبادرة، ولا يمكن بدء الدراسات الأولية للمشاريع الكفيلة بإخراجها إلى حيز الوجود دونهما.

وفيما يبدو فإن استمالة كل من موريتانيا والسنغال إلى المبادرة، كما يمكن أن يستشف من موقف نواكشوط المبهم، ومن صمت داكار، رهين بتبديد توجسهما ومخاوفهما، وخاصة ما يتوهمونه أو ما توعز لهما به بعض الأطراف عن حتمية حصول تأثيرات سلبية على موانئهما، وخاصة ميناءي نواديبو الموريتاني،  وسان لويس السنغالي بسبب ما يجري من تطوير وتوسيع لميناء الداخلة، ومن الممكن بخطوة كهذه مع موريتانيا أن تحثها على إعادة النظر في موقف الحياد الصارم، الذي تستميت في التقيد به بشأن النزاع المفتعل حول أقاليمنا الصحراوية.

لقد كان صاحب الجلالة الملك محمد السادس على دراية كاملة بأن مشروعا استراتيجيا بأبعاد مستقبلية على المدى البعيد يتجاوز إمكانيات الدول الإقليمية المعنية مباشرة به، ولذلك كان حريصا على المناداة بأن تكون المبادرة على المستوى الدولي ؛ الأمر الذي يفرض ضرورة الترويج للمبادرة بكافة السبل والوسائل الإعلامية والدبلوماسية ليس فقط لدى العواصم العالمية الكبرى المهتمة بشؤون المنطقة، وإنما أيضا لدى المؤسسات والمنظمات الدولية، وبشكل خاص تلك ذات الطابع المالي لما يمكن أن يكون لها من دور محوري في تمويل مشاريع البنية التحتية المطلوبة لوصل دول الساحل، ومراكزها الاقتصادية والمنجمية بموانئ المحيط الأطلسي.

ولاشك فإن تركيز المبادرة الملكية على أهمية المستوى الدولي لبلورتها على أرض الواقع لا يقتصر فقط على مسألة تمويل المشاريع التي ستقترح للإنجاز، وإنما يصبو إلى جمع القوى الدولية المتنافسة على أدوار طلائعية في المنطقة حول هدف مشترك واحد يمكن أن يكسب منه الجميع، كما يساهم في معالجة الأوضاع الأمنية المتدهورة هناك وتحقيق استقرار امني وتنموي مستدام، وذلك لأن استمرار تنافس تلك القوى ولو عبر وسطاء محليين بدلا من تعاونها سيفاقم من هوة الفراغ الأمني الذي تعيشه أرجاء واسعة من المنطقة، فراغ لن تستفيد منه سوى الجماعات الإرهابية لتتمدد أكثر وتواصل ترهيب الساكنة لتهجيرها.

إن استثارة حماس المجتمع الدولي لمثل المبادرة المغربية الرامية إلى مساعدة شعوب القارة السمراء على تجاوز ما تعانيه من انقسامات ومن تحديات تتطلب وجود حماس مماثل لدى أبنائها، وهذا ما ينبغي العمل عليه أولا.

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة