لماذا الشعبوية العربية أخطر على المنطقة من الحرب الإيرانية الإسرائيلية..

في ذاك اليوم، استيقظت كأي صباح للتوجه إلى المدرسة الثانوية حيث ادرس تلميذا. وكعادتي، مررت بدار جار زميل دراسة كان صديقي وكنا نتقاسم طريق المدرسة يوميا. ومع ذلك بدا هذا الصباح لا يشبه الصباحات الاخرى. نمت ليلة البارحة، واصبحنا واصبح الملك لله وللولايات المتحده الأمريكية  حلفائها. حسب زميل الدرس فقد بدأ الهجوم الجوي على عراق صدام وأغلقت في المغرب كل المدارس والمؤسسات التي يجتمع فيها الناس. الدولة تعرف ان الشعوب ذات شحنات قومية لا يمكن التحكم فيها اذا انفجرت. العاقل إذا ضرب غير المجنون اذا هجم. يفضل العاقل ان يصارع من يفقه قواعد اللعبة. اما الجاهل بالقواعد كالأعمى، لا تعرف حيث تأتيك ضريته. هكذا فكرت الدول في مواجهة شعوبها غداة الهجوم الاول على العراق.

الدولة استبقت الأحداث وأعلنت عن غلق المدارس والثانويات والجامعات تحسبا لتحرك الشعب الحساس تجاه الخطاب الشعبوي، خطاب الأمة العربية و امجاد الحضارة الإسلامية و كبواتها التي لم تهضم بعد. الدولة لا تحبذ ان تكون الشوارع و ساحات الثانويات و الجامعات مسرح مظاهرات قد تؤدي الى انزلاقات امنية او سياسية تحرج موقف الدولة الرسمي و المسؤول.

الضربة قاسية والحرب على صدام و عراقه كانت ضربة قوية لنفسية جيل شاب لم يعش حروبا سبق وأن أهينت فيها الدول العربية اسوأ إهانة. الشعوب حساسة تجاه الإهانة المستدامة بقوة عقدة الدونية وبفرط تغلغل العقلية القومية كانت بفضل القوميين العرب او بسبب القوى الملتحية الاسلامجية التي تبحث لها عما يشرعن وجودها.

الإهانة تاريخية و العجز مهين بل و مدمر لأمة انقلبت عندها وفيها المعايير والقيم. أمة أعمى الكذب أبصار شعوبها، الكذب المسمى سياسيا و ايديولوجيا الشعبوية. العاطفية هي المعيار الأول و ثاني معايير هذه العقلية المريضة تقبل الخطاب الكاذب الذي يدغدغ العواطف ولو كان مدمرا و مهينا ورفض كل منطق تحليلي واقعي براغماتي موضوعي.

ضربت العراق اول مرة. تعبأت كل قنوات الشحن الايديولوجي خاصة في دول الإرث الشيوعي. الجزائر مثلا و هي مقدمة على عشرية بلون الدم، كانت تعبئ للعراق بشكل رهيب شعبيا. تعبئة عربية جعلت الشعب العربي يصدق كعادته اكذوبات حضارة ودولة حضارة مؤسسة على العاطفة الجياشة وعقدة الدونية بل وأخطر رفض المرض الذي ينخر الأمة وعدم الاعتراف به. لا يهم عدد الضحايا والسنين المهدورة.

كأي مريض يرفض الاعتراف بأنه مريض. يكبت حقيقة مرضه ويصدق كذبه على نفسه. كذلك الشعوب، تحركت تحت تأثير الأناشيد الحماسية والاغاني القومية والاحلام التوسعية والحربية والعسكرية الدموية رفضا لاي فرضية سلم مهما كان فيها مصلحة شعوب ترزخ تحت نيئ الحكم الاستبدادي المهين والذي اوصل بعضا من دول الأمة إلى الهلاك.

من اجل لحظة نشوة، نشوة انتصار افتراضي، نشوة هجوم بصاروخ عراقي سكود والصدام على تل ابيب مثلا. عواطف تحركت في شعوب المنطقة في لحظة كانت اغلب شعوب منطقة الأمة مهضومة الحقوق، مقهورة سياسيا و اجتماعيا ومحتقرة من طرف قيادات اثبتت ان هناك شكوك تحوم حول سلامة اذهانها، من قدافي ليبيا لصدام العراق مرورا ببنعلي، جار العسكر الجزائري،  المخزن المغربي سنوات الرصاص ومبارك مصر و أسد سوريا، واللائحة طويلة بطول و عرض أمة تسمي نفسها أمة العرب، خير أمة اخرجت للناس حسب القوميين الشعبويين الذين باعوا للشعوب وهما ما زال سلعة تعرض الى يومنا هذا. ما تزال سلعة الشعبوية وانتظار المهدي والشجرة التي ستحدث المسلم لتقول له ان وراءها يهودي وجب قتله. ما تزال هذه السلعة معروضة.

الشعوب في انتظار الاخبار الحمراء العاجلة، مسيرة تنفجر هنا وصويرخ هناك. عسكري يموت هناك بطلقة رصاص قناص يتبعها وابل من رصاص يقتل بلدة بأكملها ويدمر قرية. أربعون ألف ضحية فلسطينية منذ السابع من اكتوبر فقط. الحرب على العراق الذي اعتدى على الكويت دون حساب التبعات أدت الى كسر شوكة البعث في كل المنطقة، منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا. خمسة ملايين بين قتيل وجريح عراقي. الضحايا بالملايين من بغداد الى دمشق ولبنان وليبيا و و و و. و رغم ذلك يكفي ان ينتشر خبر هجوم على اسرائيل لكي يتحرك الحنش القومي الشعبوي ليعيد للهزائم امجادها. لا بلاد حررت و لا شعوب استقلت ولا حقوق رجعت  لا تنمية تحققت. شعارات وفقط.

الشعوب غير الدول.

الشعوب غبية لا تفرق بين رد فعل من سرقت منه محفظة في سوق أسبوعي وبين شعب سرق منه عقله وحكمته واصبح دمية تحركها رياح الشعبوية، رمز تخلف نسقي لا دواء معه الا الإنقراض. الدولة، غير الشعب، الدولة تحسب حسابها ولا تتحرك حسب رغبة الشعوب. الدولة العربية وغير العربية تتحرك ضمن سياسة مدروسة وتاريخية و شكل وطني اي لا تتعدى حدودها. وذاك ما فعلته ايران في ردها على موقعة دمشق. اما الشعوب، تكاد كل المعطيات توحي بأن لا ثقة في الشعوب و في حكمتها و قدرتها على بلورة مواقف رزينة و حكيمة.

ما يحدث بين ايران واسرائيل لنموذج آخر مستحدث لتأثير الشعبوية على العقل الباطن العربي. ما يزال العقل العربي الشعبي ينتظر صلاح الدين لتحرير القدس وفلسطين. أطلقت ايران بضع قليل من درونات فرأيت قلوب القوميين والاسلامجيين و الشعبويين عموما تهتز وحلمها الدفين مسح اليهود من على الأرض. المسح هو الهدف. يبدو ان تلاحق الهزائم على أمة العرب اوصلت القهر الى أبعد حدوده في قلوب اهل الأمة. بشكل مفتوح او بشكل ضمني، الهدف من الصراع مع اسرائيل هو القضاء على اليهودي. هدف فاشي مهما كانت العداوة. من يحاول تمرير فكرة ان الجزائر عرفت استعمارا لقرن و يزيد ومع ذلك رحلت فرنسا، من يقوم بهذه المقارنة مع وجود الفوارق فقد اخطأ سواء السبيل. فرنسا غير اسرائيل والمعطيات مختلفة تماما مع كل التجارب السابقة. لا مقارنة مع وجود الفارق. لكن الشعبويين لا يقولون الحقيقة لانها تضر مصالحهم و مصلحتهم استمرار الاسترزاق على ظهر القضية باعتماد سلب الشعوب القدرة على التحليل السليم و الموقف الصحيح.

الليلة، تدق وسائل إعلام العرب، من قطب الامارات ومصر الى قطب قطر وحماس، أجراس حرب شرق أوسطية. هذا الشارع العربي الشعبوي هلل وكبر. هو الذي كان قبل ايام ينتظر رد إيران على ضربة دمشق كما ينتظر نهائي في دوري كروي. جاء الرد واشتعل الشارع العربي الشعبوي انتظارا وشوقا لتدمير تل أبيب لرؤية دمائهم تمسح دماء غزة. الضربة للاسف لهم جاءت من نصف اخت في الدين عدوة في الجيوسياسا. ومع ذلك انتظر الشارع العربي والاعلام العربي مبادرة اطلاق صواريخ باليستية على تل ابيب من ايران واشترطوا ان تكون سريعة وانتقدوا ارسال مسيرات لانها بطيئة. الموت أجمل لما يكون سريعا والانتقام طبق يؤكل باردا.

طيارات مسيرة تعبر كل الشرق وكثير رعب وصواريخ والبعثة الإيرانية في الامم المتحدة تعلن نهاية العمليات. الضربة محسوبة العواقب استفادت من ضوء اخضر من طرف القوى العظمى لحفظ ماء وجه ايران المصدومة بضربة دمشق وتأكيد الحضور الايراني و قوته و استعداده الحربي و الدبلوماسي.

اكثر من الشعبوية، انتصار الخط الحربي بعد عقود من السلمية و نبذ العنف بعد حرب الفيتنام والحرب الأوربية الثانية. انتصار الصقور في كل الدول بدون استثناء. تراجع المد السلمي واختفى تقريبا في الشارع العربي الشعبوي. استاء الشعبويون من آثار الرد الإيراني. كل هذا لماذا؟

طائرات مسيرة سقطت اغلبيتها كما كان متوقعا عسكريا. ايران تلعب بأمنها القومي. أحفاد الخميني، اعداء العراق في حرب ضروس، بجوار اغلبه عداء، لا يمكن لهم ان يلعبوا بامن ايران بسبب الايديولوجيا. بموقفها و إيقافها للعمليات الردعية ضد اسرائيل تستحضر امنها القومي  السلام. والشارع الشعبوي لا يحب السلام. يحب الحرب. زرع فيه التخلف المركب الذي تعاني منه الأمة حب الدم ورؤيته. نسي ان الدين السلام. الاسلام سلام. رؤية الدم من خلال تتبع اخبار الحروب  والضربات الإرهابية تدغدغ مشاعره وهو المقهور في وطنه.

أرى أمرين لابد من الحسم فيهما. أول الأمرين الخروج من مستنقع الشعبوية و التي لا تسمح باي طفرة تنموية مستدامة. الشعبوية هي ان الطماع يغلبه الكذاب. الشعب طماع و الشعبوي كذاب. الكاذبون من يدغدغون عواطف شعوب لا مستوى لها غير القراءة السطحية الا من رحم ربك،.

الأمر الثاني, هو ان هذه الشعوب تصدق انها تستطيع مسح اسرائيل من على الخارطة بدعاء أو أمر من شجرة تتحدث و تشارك في الحرب على اليهودي، شعوب تصدق كذبها و تكذب الصدق. و هكذا هي منذ بضعة قرون وحروب وغزوات ونكسات وفقدان الشرف في ساحة صراع الحضارات.

و تستمر الدول العاقلة شعوبها في بناء مستقبل حضارتها بعقل و روية، فيما تستمر الأمة في مسح دموع الضحايا بالتين الشوكي والصلاة على النبي.

خلاصة الربط بين عناصر موضوعنا هو أن الواقع يكذب طروحات الشعبويين في التعاطي مع الصراعات في الشرق الاوسط والتي تؤسس عليه كل مشروعيتها امام شعوبهم. هذه الطروحات تؤثر على التكوين النفسي والذهني للمواطن.لا يمكن بناء شخصية مواطنة على قاعدة رفض الاخر ومحبة الشر له وتمجيد سبل الحرب و غيرها من الأساطير المكونة للعقل العربي. شخصية مغامرة مقامرة بحياة الناس خدمة لهذه الاساطير. الشخصية المتزنة هي التي تؤسس بها الاوطان لا أناس مقلوبة عليهم القفة.

القضية قضية قوميون واسلاميون ما يزالون حاضرين وعيا او لاوعيا، كما كان عليه أجدادهم الأولون من بعث وشيوعية واخوان مصر و خوان شمال إفريقيا وجماعات جنوب لبنان وخط الثورة الإيرانية والأنظمة القاسية ضد شعوبها بما يرضي الله…

قوى حقيقية أغلبية مجتمعية وثقافية لا تريد وضع مسلماتها محل تحيين ومراجعة. الدول الوطنية أسست لتدوم. اسرائيل أسست لتدوم. و ستجيش كل الوسائل لتدوم. لن يرحل اليهود. و في هذه الحالة هل سيستمر خيار الحرب الى ان يحدث ما لا يحمد عقباه، إبادة جماعية لا ينفع معها تواجد فلسطينيين خارج ارض غزة  والضفة. أربعون ألف ضحية. رقم عظيم مقارنة مع عدد السكان في تحليل ارقام النمو الديموغرافي.

هل الحرب هي الحل الوحيد؟ ما ستكون تأثيرات حرب مركبة على الشعوب؟ ايجب ان يضحى بالشعوب مرة اخرى؟

الدول الوطنية لن تفعل ذلك رغم خطورة الوضع. ايران لن تسقط في هذا الفخ. و سيستمر شعب غزة في اعطاء مزيد من الضحايا و التضحيات. الخط الشعبوي يصدمه الواقع. هل سيغير من أمره شيءا أم تعود حليمة لعادتها القديمة؟ عادة دغدغة الشعوب و الدفع بهم في غياهب اجابات غير سليمة تؤدي إلى كوارث حقيقية. أم يتجاوز التاريخ الشعبوية بشكل طبيعي لانها تحمل في طياتها نقيضها؟

عبد الغني العيادي

كاتب، مترجم ومحلل سياسي، خبير في الشؤون الأوربية وقضايا المناخ، خريج مدرسة المترجمين الدوليين و جامعة مونس ببلجيكا، عمل ملحقا سياسيا في البرلمان الأوروبي، ضيف على قنوات دولية لتحليل الشأن الأوروبي ( بالعربية، الفرنسية والانجليزية).