هذا ما يسعى إليه نظام الجزائر

في ختام القمة السابعة لمنتدى الدول المنتجة والمصدرة للغاز، التي استضافتها الجزائر يوم 2 مارس 2024 أعلنت الرئاسة الجزائرية أن لقاءا جمع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بنظيره التونسي قيس سعيد، الذي حضر القمة المذكورة كضيف شرف بدعوة من البلد المضيف، ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد يونس المنفي بغية “تكثيف الجهود وتوحيدها قصد مواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية بما يعود على شعوب البلدان الثلاثة بالإيجاب”، مضيفة بأن الرؤساء الثلاثة اتفقوا على عقد قمم دورية بينهم كل ثلاثة أشهر ستبدأ في تونس مباشرة بعد شهر رمضان المبارك لاستعراض نتائج قمة الغاز.

وكما يتضح من عدد من ردود الفعل الدبلوماسية والإعلامية، فإن معظم المتابعين لتطورات الأوضاع في منطقة المغرب العربي لم يأخذوا على محمل الجد حديث بلاغ الرئاسة الجزائرية عن أن اللقاء المرتقب بين الأطراف الثلاثة في العاصمة التونسية سيستعرض مخرجات قمة الغاز، وذلك لأن تونس أصلا ليست عضوا في منتدى البلدان المنتجة والمصدرة للغاز، ولا يهمها الأمر إلا من ناحية مرور أنبوب الغاز الرابط بين الجزائر وإيطاليا عبر أراضيها، علما بأنه أنبوب مرشح للإحالة على المعاش ابتداء من سنة 2029 عندما تنتهي أشغال تمديد الأنبوب الجديد الذي سيمر مباشرة بين البلدين عبر البحر الأبيض المتوسط بعيدا عن المياه الإقليمية التونسية.

لهذا، فإن ما يسترعي الانتباه أكثر في بلاغ الرئاسة الجزائرية هو الحديث عن عقد لقاءات دورية بين الأطراف الثلاثة ستكون متكررة وفي مواعيد متقاربة كل ثلاثة أشهر، وهو أمر يشير بوضوح إلى وجود رغبة لديهم في بلورة نوع من التقارب بينهم قابل للتطور، تقارب أملته عليهم الظروف الداخلية والإقليمية الضاغطة على كل واحد منهم، وهي ظروف متباينة حسب الأوضاع الخاصة بكل بلد على حدة ؛ الأمر الذي يجعل آفاق هذا التقارب والصيغة التي يمكن أن يأخذها في المستقبل تبدو لحد الآن ضبابية، والغايات منها مبهمة.

وغني عن الذكر أن هذه الخطوة ليست جديدة على الدول الثلاث، فقد سبق لرئيس مجلس نواب الشعب السابق في تونس راشد الغنوشي  قبل الإطاحة به واعتقاله أن دعا سنة 2021 إلى مغرب عربي بدون المغرب وموريتانيا، وهي الدعوة التي حاول الرئيس قيس سعيد مدفوعا بالرغبة في إيجاد متنفس إقليمي لأزمة البلاد الاقتصادية واحتقانها الاجتماعي، وتعطل مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي، إلى تجسيدها أواخر سنة 2022، وذلك من خلال تحركات دبلوماسية منسقة ومتزامنة قادتها آنذاك الوزيرة الأولى السابقة نجلاء بودن في اتجاه كل من الجزائر وليبيا من خلال التواصل مع رئيس حكومة “الوحدة الوطنية الليبية” عبد الحميد الدبيبة، الذي يبدو أن الجزائر رغم تفاهمها معه لا تريد أن تراهن عليه وحده في الساحة الليبية، مما أجهض تلك التحركات التونسية في مهدها.

وانطلاقا من وهم التفوق الذي يستبد بالنظام الجزائري، فالواضح أنه لم يجهض المبادرة التونسية حينها لاقتصار التمثيل الليبي على رئيس حكومة طرابلس التي لا تمثل كافة الأطياف السياسية والقبلية والجهوية الليبية، وإنما كان ينتظر الفرصة ليقود هو بنفسه هذه الخطوة في إطار سعيه إلى استغلال أي مناسبة لاستعراض ما يسميه بقوته الضاربة، وما يريد ترويجه عن أدواره الريادية ليس فقط في المنطقة، وإنما في القارة السمراء أيضا، سعيا منه إلى محو الآثار السلبية الناجمة عن رفض طلب انضمام الجزائر لمجموعة البريكس، وعما اعتبر إهانة للدبلوماسية الجزائرية في تصريح وزير الخارجية الروسي بأن الدول التي استبعد ترشيحها للبريكس دول لا هيبة ولا وزن لها.

ورغم أن الجزائر تدرك جيدا أن السيد محمد يونس المنفي محدود التأثير في ليبيا ولا يمكنه التعبير لوحده عن موقف ليبي موحد في السياسة الخارجية، بل هو الذي يأمل في الحصول على دعمها أمام منافسيه المحتملين إذا ما جرت الانتخابات في ليبيا، وأن الرئيس التونسي لا يبحث من الاصطفاف خلفها غير المساعدة في تجاوز نسبي لهمومه الاقتصادية التي قد تعصف بطموحه لإعادة انتخابه مرة ثانية، فإن اندفاعها للتقارب معهما سيتواصل وبكثافة مع عدم فقدان الأمل في استقطاب موريتانيا مستقبلا من خلال أساليب مخابراتية تمزج فيها بين الضغوط والإغراءات في آن واحد، خاصة وأن النظام الجزائري لم يستسغ رفض الرئيس الموريتاني حضور هذا اللقاء مع أنه كان موجودا بالجزائر العاصمة هو الآخر كضيف شرف في قمة الغاز.

والواقع، فإن هذا الاندفاع يشكل محاولة جزائرية أخرى لدفع المنطقة المغاربية مجددا نحو الغوص في وحل سياسة المحاور، وتبادل الاستقطاب بين أطرافها تماما كما حصل في الثمانينات حين سعت إلى إبرام معاهدة الإخاء والوفاق مع تونس التي انضمت إليها موريتانيا، والتي رد عليها المغرب وليبيا بإنشاء الاتحاد العربي الإفريقي. وكالعادة يعود هذا الاندفاع الجزائري إلى مجموعة عوامل أهمها:

-دحض ما يتداول في العديد من الأوساط الدبلوماسية والإعلامية العالمية عن عزلة تجد الجزائر نفسها أسيرة لها، عزلة كرستها بإرادة منها على حدودها الغربية عبر مواصلة التعنت في إغلاق الحدود مع المغرب، والتي استفحلت أكثر بعد التغييرات الجوهرية التي حدثت في السلطة في كل من مالي والنيجر، وتجاوب العاصمتين الساحليتين مع المبادرة المغربية لتمكين بلدان الساحل من إطلالة بحرية على المحيط الأطلسي دعما لجهودها التنموية.

-استمرار السعي لتطويق المغرب ومحاصرته إقليميا أملا في فرملة توجهات سياسته الإفريقية، التي قرر النظام الجزائري مواجهتها، والدخول معها في منافسة شرسة وبأساليب لا تبحث سوى عن الفرقعة الإعلامية، كما يتضح من التحركات التالية:

-المبادرة التي أعلنتها في فبراير 2023 خلال القمة 36 للاتحاد الإفريقي، والمتمثلة في ضخ مبلغ مليار دولار فيما سمي بوكالة التعاون الدولي لأجل التضامن والتنمية في إفريقيا، التي أرادت أن تستهدف من ورائها جعل الجزائر حلقة وصل بين أوروبا وإفريقيا متحدية العامل الجغرافي الطبيعي الذي يمنح للمغرب وحده هذه الميزة. ومع ذلك فالمبادرة ما تزال لحد الآن مجرد حبر على ورق.

-التهافت المستمر على إحياء مشروع خط أنابيب الغاز والبترول العابر للصحراء من نيجيريا إلى الجزائر عبر النيجر الذي لم ير النور، ولن يراه بسبب الظروف الجيو سياسية في المنطقة رغم أن توقيع مذكرات التفاهم بشأنه تم سنة 2002، وهو تهافت لا غرض له سوى التشويش على مشروع أنبوب الغاز بين نيجيريا والمغرب، الذي ستستفيد منه أزيد من عشر بلدان أخرى، والذي قطعت الدراسات الخاصة به أشواطا متقدمة.