مشاكل العرب: غياب الثقة يفاقمها ولا يحلها

يعيش العالم العربي في قلب المشاكل العالمية بمختلف أنواعها السياسية والاقتصادية والبيئية وغيرها، بل إنه بؤرة للعديد من أعقد هذه المشاكل، مما يجعله الأكثر تأثرا وبشكل مباشر بما تعرفه العلاقات الدولية في الوقت الراهن من تقلبات سريعة في المواقف. تقلبات ساهمت وما تزال في مضاعفة حجم تعقيدات مشاكل عديدة معقدة منذ بدايتها، كما زادت وتزيد من غموض آفاقها ؛ الأمر الذي أدى إلى استشراء مفرط لداء عدم اليقين في كل المخططات والسياسات التي يتم رسمها من أجل حصر هذه المشاكل على أمل العمل من أجل إيجاد حلول لها بعد ذلك.

فمن المحيط الأطلسي الهادر إلى الخليج العربي الحائر لا توجد بقعة عربية هادئة ومستقرة باستطاعتها الانصراف نحو تعبئة مواردها المختلفة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والأبحاث العلمية والتكنولوجية فقط بدلا من العيش في ظل هواجس عدم الاستقرار، وما يتطلبه من ضرورة رصد معظم تلك الموارد للخطط العسكرية والأمنية اللازمة لحماية كيانها وحدودها. وكما يتضح من العديد من المعطيات الملموسة على الأرض، فإن العالم العربي يعايش كافة أصناف الصراعات المسلحة المباشرة منها، وغير المباشرة، كما يعرف كل أنواع المناكفات والمشاحنات العلنية منها والسرية وفي مختلف المجالات.

فإذا كانت بعض أجزاء الوطن العربي في منطقتي الشرق الأوسط وجنوب الجزيرة العربية تمثل ساحات قتال مباشر إما لاسترجاع حقوق مغتصبة عجز المجتمع الدولي عن وضع حد لاغتصابها، وإما لمواجهة مشاريع هيمنة إقليمية سياسية وإيديولوجية، دينية ومذهبية متناقضة لا يخفي أي منها رغبته في إلغاء الآخر بدلا من السعي سوية إلى إيجاد قواسم مشتركة للتعايش فيما بينها، فإن أجزاء أخرى منه في شمال إفريقيا تعاني إما من صراعات داخلية تضع الوحدة الوطنية لعدد منالأقطار في خطر محدق، أو من خلافات سياسية داخلية حادة في بعض البلدان، فضلا عن أجواء الاحتقان القائمة في مناطقحدودية نتيجة وجود أنظمة عسكرية بأطماع توسعية تريد العبث بالوحدة الترابية لجيرانها، وتسعى إلى تمزيقها.

وبالنظر إلى تعدد وتجذر أواصر الترابط الموجودة بين مختلف البلدان العربية وفيما بين شعوبها، فإن أي بلد منها لا يستطيع أن يدعي أنه بمنأى كامل عن تفاعله مع مشاكل البلدانالأخرى، أو أنه لا يتأثر بها، إذ أثبتت العديد من التجارب التاريخية بما فيها الحديثة العهد أن أي مشكل يقع في بلد عربي ما ينعكس مباشرة وبشكل سلبي على بقية البلدان، وإن بنسب متفاوتة حسب القرب الجغرافي، وقوة وكثافة العلاقات الإنسانيةمع البلد المعني.

إن المنطق السليم يتطلب أن يكون هذا الأمر عاملا محفزا للبلدان العربية قصد العمل بصدق ودون حسابات مصلحيةضيقة على تقوية أسس التعاون والتلاحم والتضامن فيما بينها للتصدي سوية إلى مشاكل المنطقة والسعي إلى تسويتها في نطاق أخوي بعيدا عن التدخلات الأجنبية، ووفق التزاماتها المشتركة بموجب ميثاق جامعة الدول العربية، وغيره من المعاهدات المبرمة في هذا الإطار.

ولكن الواقع المعاش غير ذلك تماما، فبعيدا عن المشاكل الموجودة مع دول الجوار العربي (إيران، تركيا، إثيوبيا وإسرائيل)، والموروث معظمها عن الحقبة الاستعمارية وما رافقها من تعسف في ترسيم الحدود السياسية بين الأقطار العربيةنفسها، ومع جيرانها المباشرين، فإن مشاكل أخرى كثيرة ومتنوعة يعاني منها العالم العربي كانت وراء افتعالها أنظمة عربية تسترت لمدة طويلة خلف شعارات ثورية قومية أو تقدمية سرعان ما انكشف زيفها وحقيقة أطماع الهيمنة التي كانت تخفيها، والتي لم يسقطها بعض هذه الأنظمة من تفكيره، وما يزال يتحين الفرص للعودة إلى العمل على إنجازها.

ومما لاشك فيه، فإن تلك الأطماع وطموحات الريادة التي أفرزتها تعتبر من بين أهم أسباب فشل كل الجهود التي بذلت لترجمة الشعارات الرنانة المتعلقة بالعمل العربي المشترك سواء في بعده الشامل أو ذلك المرتبط بالتجمعات الجهوية المصغرة إلى واقع ملموس يعود بالفائدة على الجميع باستثناء تجربة مجلس التعاون الخليجي رغم أنها ما تزال محدودة كثيرا على صعيدتنسيق السياسات الخارجية لأعضائها.

وفي وضع كهذا من الطبيعي أن تظل الشكوك قائمة في العديد من العلاقات العربية البينية، بل ومن الممكن أن تزداد حدتها وما ينجم عنها من انعدام الثقة عند أول اختلاف في المواقف أو سوء فهم قد يقع بين أي دولتين بشكل يدفع كل واحدة منها في اتجاه البحث عن إقامة شراكات أو بناء تحالفات شرقا وغربا، وداخل الإطار العربي مع الدول المتوافقة معها بنسبة كبيرة سواء في مواقفها السياسية، أو في توجهاتها الاقتصادية.

في هذا السياق، فإن معظم المتابعين العرب رحبوا بما أقدمت عليه بعض البلدان العربية من خطوات في اتجاه تعميق التعاون وتنويعه مع مجموعات اقتصادية وسياسية عالمية التوجه، وذات إمكانيات مالية كبيرة وقدرات تكنولوجية متقدمة، مثلما حصل بالنسبة لالتحاق كل من مصر والسعودية والإمارات بمجموعة البريكس، كما استحسنوا كثيرا ما اقترحته دول أخرى من هياكل جديدة ومبتكرة لتعاون استراتيجي بعيد المدى مع بلدان تقاسمها نفس الفضاء الجغرافي، ونفس الرغبة الصادقة في تحقيق الفائدة المتبادلة، على غرار المبادرة المغربية الإفريقية الأطلسية ومثيلتها الداعية  لفك عزلة دول الساحل والصحراء بتأمين منفذ بحري لها على المحيط الأطلسي.

وخلافا لهذه المبادرات والخطوات البناءة، فإن ما أثار الاستغراب مؤخرا هو بروز نزعات لدى بعض الأنظمة العربية نحو تشكيل تكتلات لا تحركها أي مصالح مشتركة حتى ولو كانت آنية وضيقة، وإنما أحقاد دفينة للإساءة لبلدان أخرى مجاورة لها. نزعات من شأن مأسستها أن تؤجج أكثر حالة الاحتقان في نطاقها الجغرافي، والإجهاز مقابل ذلك على هياكل للتعاون موجودة يفترض العمل على تفعيلها لا وأدها.

ولاشك فإن المحاولة الثلاثية الجزائرية التونسية الليبية تدخل في هذا الإطار كما يتضح من البيان الصادر عن اجتماعها الأخير في تونس يوم 22 ابريل 2024، الذي أعطت فيه أول إشارة عن سعيها إلى الانسلاخ عن بعدها المغاربي والعربي، وعما تضمره من نوايا لإقبار اتحاد دول المغرب العربي، وذلك بتأكيدها على المعطى الجغرافي الشمال إفريقي، متناسية أن شمال إفريقيا يمتد من بوغاز طنجة المغربية إلى شواطئ بور سعيد المصرية.ولكن ما العمل مع أنظمة اعتادت اختلاق الأزمات، ولا تعرف العيش بدونها؟

عبد القادر زاوي

دبلوماسي متقاعد، سفير المغرب السابق في عدد من الدول العربية، مؤلف وكاتب عمود على مجلة المجلة